انفجار مرفأ بيروت 2020

من بيضيبيديا، الموسوعة الفارغة
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث







بيروتشيما الانفجار الدامي الهائل الذي ضرب مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020 أعاد إلى الأذهان ما شهدته مدينتا هيروشيما وناغازكي اليابانيتان خلال نهاية الحرب العالمية الثانية، بالنظر إلى الدمار الهائل الذي أصاب العاصمة اللبنانية، والخراب الذي خلفه وراءه في أحيائها وشوارعها، وتسبب في إزهاق أرواح أكثر من 150 ضحية وآلاف الجرحى والمفقودين ومئات آلاف المشردين. جاء هذا الانفجار الكارثي كي يكشف حقيقة نظام المحاصصة الطائفية الذي أوصل لبنان إلى درجة غير مسبوقة من التردّي، وفي وقت تعصف فيه الأزمات بالبلد وناسه، على مختلف الصعد، السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

نعزّيكم أهل بيروت في مصابكم، فهو مصاب العرب جميعاً، وقد كانت بيروت أكرم للعرب من عواصمهم التي لم تعد تعصم من شيء، فالعصمة ليست بيدها، ذلك لأن العرب كانوا يتخاصمون في بيروت، ويطبعون الكتب الممنوعة في بيروت، ويصطافون على سواحل بيروت، وسوى ذلك كانت بيروت ثغر العرب التي تجاهد جهاراً وإسراراً ضد إسرائيل، لذلك وصفها نزار قباني بأنها ستّ الدنيا، فإن لم تكن، فهي ستّ العرب. . قال أحد الصالحين: "إن لله عباداً يستقبلون المصيبة بالبشر"، ألا إن بعض البلايا أهون من بعض، وقد آلمنا تسونامي النار الذي ضرب بيروت، والذي شُبّه بالنووي، وهو تشبيه مناسب في الشكل وليس في الأثر، لأنه يشبه نبتة الفطر النارية. وتجاذب محللون الجدل في أنه تفجير يشبه هيروشيما، وصحّح لهم آخرون بأنه بتشيرنوبل أشبه، وكدنا نختصم مرة ثانية.

لم يكن لدى لبنان مفاعل نووي تستولد منه الطاقة، أو قنبلة تهدد بها العدو، فالفساد في النووي ليس كالفساد في مياه الصرف الصحي، ولم تخض بيروت الحرب العالمية حتى تُضرب بالنووي كما ضربت هيروشيما وناغازاكي. وتبقى مصيبة أهل بيروت أهون من القاهرة، ومن بغداد، ومن دمشق، ومن الرياض، وهي كبرى العواصم العربية الثكلى من غير نترات أمونيوم، إنها عواصم تغص بالماء. خرج علينا خبير روسي، وللروس خبراء، يزعم أنَّ النترات سرقت، ولو بقيت على حالها ومقدارها الأول، لمحتْ بيروت عن الخريطة محواً، فقيل: إن الفساد نعمة، ولولا الفساد ما عشنا، فقوانين أغلب البلاد العربية لا تصلح للعيش، ولابد من خرقها أو نخرها بالفساد. أليس أظلم من أن يكون الفساد في بلادنا نعمة مثل المن والسلوى؟

نخوض نزاعاً حالياً على صفحات التواصل حول الصوامع التي حمت بعض بيروت، وهو خصام الأيتام في البحث عن أب، وقد صار العرب أيتاماً، فأنصار فرنسا يسخرون من نسب الصوامع للعثمانيين، ولا يرون لهم فضيلة أبداً، فكل الفضائل هي لفرنسا التي تأخذ جماجمنا إلى المتاحف، علامة على الحداثة ووفاء لشعارات الثورة الفرنسية! ألا إن مصيبة المرفأ كبيرة، والمرفأ هو باب بيروت، وبوابتها الكبرى، وإن المصيبة أقل من مصائب مصر، أكبر الدول العربية المبتلاة بنترات السيسيوم، التي جعلت مصر تحت خط الفقر، ومثقلة بالديون، وقد بلغ الدَّين الخارجي ما بلغ، وهي عطشى، ورغيف الخبز فيها لا يشبع، وتلفزيوناتها تشرِّد شعبها عن همه، وتهاجم صحيح البخاري، وتبحث في عذاب القبر، حتى تذهل الشعب عن حاضره، فليس كل الانفجارات ظاهرة، بعضها يحدث بصمت وبطء.

ومصيبة السعودية كبيرة أيضاً وأكبر من مصاب بيروت، وهي واحدة من أغنى الدول، ومصابة بمصاب نترات السلمانيوم، ويعلم الجمع ممن ضم مجلسنا تردّي حال الاقتصاد بعد انخفاض سعر النفط، وارتفاع سعر الكلام، وغرامات التغريد، ورفع نسبة الضريبة. وقد بلغ عدد ضحايا بيروت 175، والخسائر المادية قدرت بخمسة مليارات دولار أو نصفها، أي ما يعادل خمس كنائس مثل نوتردام، التي جمعت خسائرها من التبرعات في أسبوع واحد، بينما لا يمكن تقدير خسائر مصر من رئيسها الذي يحبس شعبها، ويفرط في مستقبلها، ويهدر ماضيها، والتي ستدفعها الأجيال القادمة، أما سوريا، فقد صارت خارج التاريخ إلى حين.

كما أن ضحايا بيروت سيكرّمون ويدفنون في النهار، وربما تُمنح أسماؤهم إلى شوارع وساحات ومكتبات عربية وعالمية، في الوقت الذي قتل فيه الآلاف في سوريا، وفي مصر، وفي بغداد ودفنوا في مقابر مجهولة، بعد اتهامهم بالإرهاب، وتلك نعمة أخرى حرمت منها عواصم العرب الكبرى.

إن المرفأ قد احترق، لكن الشعب اللبناني لا يزال حياً، ينطق ويتظاهر، بل استطاع أن يحتل أربع وزارات، وإن الجيش اللبناني يتورع عن القتل، وإن الدول العربية والعالمية تتعاطف مع بيروت، بل إن تل أبيب نفسها أشعلت لها الشموع نفاقاً، أو خوفاً، أو دفعاً للشبهة. وحال لبنان ليس كحال الشعب المصري الممنوع من الكلام في شأن الماء، وهو أهم شؤونه على الإطلاق، فقد حبا الله مصر برئيس أكرم من حاتم طي، وهو يوزع ثروات مصر الاستراتيجية على الجيران، كأنه في سباق مع الزمن، ويكثر الديون، ويمنع الكلام والنشر في مفاوضات النيل المقدسة التي ستطول، والذي يفتك فيروس كورونا بزهرة أطبائه، ونعمة الكلام نعمة أخرى تنعم بها بيروت الجريحة.

هذا التضامن محرم في عواصم عربية، وربما كان سبب هذه النعمة أن لبنان لم يرَ دكتاتوراً واحداً وحيداً كما في سوريا ومصر والعراق، فهم ثلاثة أو أكثر. ومن النعم التي حُرمت منها العواصم الكبرى الأخرى، نعمة العطف، فبيروت ليست غنية مثل بغداد، ولا يحكمها دكتاتور مثل بشار الأسد في دمشق، أو مثل السيسي في القاهرة، وإن مصيبتها أقرب الى المصيبة الطبيعية، والنازلة، لذلك نعمت بعطف من الدول الصديقة والعدوّة، وإن مصائب العواصم العربية الكبرى أكبر.

حسب مراسل قناة "الميادين" فإن الانفجار هو ضرطة لأحد العمال الآسيويين الذين أضناهم العمل في الجو الحار فاستلقى على الأرض بعد تناولة ساندويتشات همبجر محشوة بالمايونيز مطلقا القنبلة الذرية من مؤخرته . الإنفجار هو أعنف هجوم تفجيري تتعرض له العاصمة اللبنانية بيروت منذ تفجيرات قوات المارينز الإميركية/ الفرنسية في 1983 التي نفذت من خلال شاحنات مفخخة. زعيم حزب الكتائب اللبناني نزار نجاريان هو أحد أوائل قتلى وضحايا الإنفجار أو التفجير (على فرض إنه حادث مُفتعل) الذي أصيب بشظية تطايرت من موقع الإنفجار واصابت وجهه وثم توفي متأثرا بجراحه. السفير القازاخستاني في لبنان أصيب بجراح نتيجة الانفجار وأصيب مبنى السفارة القازاخستانية بأضرار كبيرة نتيجة له. كذلك أكّد مراسل الجزيرة إن مكتب القناة في بيروت تعرض لأضرار مادية متعلة بالحادثة حيث تحطم الزجاج وتناثرت الأوراق والمسودات. فرضية العمل الإرهابي واردة وفرضية الخطأ التقني الذي يكون ربما مرتبط بارتفاع منسوب الحرارة في الجو واردة مع كون الفرضية الأولى ارجح فثمة رائة غير بريئة تفوح من الحادث وربما تكون هناك جهات مسؤولة كبيرة تقف ورائه وارادت الضرب في الصميم والاجهاز على ما تبقى من الجسد اللبناني الجريح

أحدث الإنفجار كارثة وطنية كبرى، وأحال بيروت مدينة منكوبة ومصدومة وحزينة، لكن المحزن أنه أصاب مئات آلاف من سكانها في بيوتهم وأماكن سكناهم، وباتوا مشرّدين يبحثون عن مأوى، بعد أن جرّدهم النظام المصرفي المافيوي من مدّخراتهم، وحين خرجوا إلى الشوارع تائهين، لم يجدوا الدولة المفترض أن ترعاهم، حيث غابت مؤسساتها واختفى المسؤولون، في وقت غصّت فيه المشافي القليلة المتوفرة بالجرحى. فيما أرجع وزير الصحة، حمد حسن، أسباب الانفجار إلى انفجار مخزن لمفرقعات نارية، ثم سخر منه المدير العام للأمن اللبناني، عباس إبراهيم، وأرجع السبب إلى انفجار مستودع لمواد شديدة الانفجار مصادَرة ومتروكة في أحد عنابر المرفأ منذ العام 2014، ولم يبيّن أسباب تركها إلى حين حدوث الانفجار، مع أنها تتضمن 2750 طناً من مادة نترات الأمونيوم الخطيرة والمتعدّدة الاستخدام.

في مطلق الأحوال، لا تردّ أسباب الانفجار إلى مجرّد تقصير أو إهمال أو حتى صدفة أو فأل سيئ، بل هو نتاج ممارسات وسلوكيات النظام السياسي اللبناني الذي يحكم لبنان منذ عقود عديدة، حيث لم يكن يأخذ في حسبانه مصالح اللبنانيين أو حياتهم ورزقهم وأعمالهم، بل أسهم في وصول أوضاعهم المعيشية إلى حدّ الكارثة، وقاد لبنان من فشل إلى آخر، والأمر لا يختصر على فشله في وضع خطة أو تدابير للخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية والمصرفية التي تعصف بالبلد ، ولا بالفشل في التعامل مع انتشار وباء فيروس كورونا، بل يمتد إلى أزمات سياسية وبنيوية متعددة، تحول فيها لبنان إلى دويلات، أقواها دويلة حزب الله، التي تسيطر على النظام اللبناني ومفاصله، وتضع نفسها فوقه، ما جعل لبنان ينزلق إلى الدولة الفاشلة، التي تحدّث عنها وزير الخارجية المستقيل، ناصيف حتي، وكثر سواه.

يشكك لبنانيون كثر في أن تتمكن أي لجنة تحقيق تشكل من القضاة الموجودين والتركيبة الحالية من الوصول إلى كشف الحقيقة، فإن مسارعة رموز النظام اللبناني إلى رفع شعار "تحديد المسؤولين عن وقوع الكارثة ومحاسبتهم خلال خمسة أيام"، تبدو مجرّد شعار أجوف، والأرجح أنهم يريدون امتصاص الغضب الشعبي الكبير ضدهم، وسيعمدون إلى انتظار اللحظة التي سيبرد فيها دم المفجوعين بأهلهم وأحبائهم وممتلكاتهم وأرزاقهم، كي يقوموا بلعبة مدارة الأمر ولفلفته، والتي بدأوها بفرض الإقامة الجبرية على موظفين إداريين لم يفعلوا غير تنفيذ الأوامر التي وصلت إليهم، ويُتوقع أن يُجروا تحقيقا بيروقراطيا تقدمّ نتائجه المعروفة سلفاً إلى رموز النظام، كي ينظروا فيه ويطمسوا الحقيقة، من خلال محاولتهم تحميل المسؤولية لأطراف محلية لبنانية، بغية تضييق الخناق عليها، وافتعال مزيد من الأزمات السياسية والاقتصادية.

ما حدث في 4 أغسطس 2020 في بيروت له ما بعده، والمأمول أن يشكل حافراً لتجديد الحراك الاحتجاجي الشعبي ضد نظام المحاصصة الفاسد، حيث بات لبنان في وضع كارثي لا يمكنه تجاوزه مع التركيبة السلطوية المسيطرة عليه، المستعدة لإفناء البلد وناسه بعد أن حوّلت غالبية اللبنانيين عاطلين وممنوعين من الاستفادة مما جنوه في عمرهم وأودعوه في المصارف. لذلك لا يتحمل الوضع في لبنان مزيداً من المواربة والمسايرة وتأجيل الحلول، إذ بات المطلوب الانتقال إلى مسار سياسي مختلف، يقطع مع نظام المحاصصة السلطوي الذي أعلن انفجار مرفأ بيروت نهاية مسيرته السياسية الكارثية.