حفل زفاف

من بيضيبيديا، الموسوعة الفارغة
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

لا يخلو الانتظار في المطارات الكبيرة من الأنس والسلوى ، فهي تتدفق بالحركة ، ولا تكفّ عن قذف المدينة بفلذات الأكباد وجمر الأشواق . مسافرون من كل الملل والنحل . المطار صندوق حي من صناديق الدنيا . اهتديت أخيراً إلى بوابة الانتظار الصحيحة ، من بين البوابات الكثيرة ، كان خلفها منتظرون انتظار الجائعين للخبز من بيت النار ، منهم من يحمل الورود ، وفيهم من يحمل شاخصات ورايات عليها أسماء ضيوف غرباء . مرّ بي عشاق ، وأزواج ، وآباء وبنون ، ومضى آيبون أخرون إلى سبيلهم من غير منتظرين ، يدفعون العربات الحقائب أو الحقائب العربات ، وكتائب من وفود سياحية يحمل رائدها علماً، وطيارون ومضيفو طيران ، من الشرق والغرب ، بأزياء موحدة ، من تقاليد البلاد ، أعراق كثيرة يمكن معرفتها من الهيئات أحياناً ، أو من نبرات اللغات ، وبعض موظفي المطار يركبون دراجات بعجلتين ، أو بعجلة واحدة ، أو سيارات جيب بسرعات محددة ، رائحين غادين . كانت الدراجة ذات العجلة عرضاً من عروض السيرك يوما، انتهى بعد أن تحولت السياسة إلى سيرك .

عريسان سوريان ينتظران عروستين ، يقفان إلى جواري ، كلاهما يحمل باقة ورد ، ومعهم أصدقاء وأقارب . عرفت أن اسم الأول أحمد ، تقف معه سيدتان ألمانيتان ، وهو يرتدي ثياب عريس أنيقة ، أما الثاني ، فاسمه ياسر كما سمعت صاحبه يناديه ، اكتفى بقميص أبيض وبنطلون أسود . المسافرون يخرجون من جناحي المخرج فرادى ، وأحياناً في مجموعات ، من رحلات قادمة من أصقاع شتى ، وسوري ثالث ينتظر زوجته لمّاً لشمل مزقته الحرب بمخالبها . سألني السوري الذي ينتظر زوجته ، بالألمانية ، عن طريق إلى الداخل حتى يساعد زوجته ، التي جاءت مع أطفاله وحقائب كثيرة ، فأجبته بالعربية ، وأخبرته أني دخلت إليه، ومللت هناك ، وحذرته أنه قد يتعرض لمساءلة الأمن والحساب على الباب .

قدّرت من لهجته ، دينه ، ومكان الولادة ، سألني عن محلي هو الآخر ، فأجبته ، وهو سؤال مقنع عن الدين والطائفة ، لتقدير الولاء السياسي ، إنه سؤال يشبه تبادل الروائح بين الحيوانات . اختبرنا بعضنا بمناطحات خفية ، واطمأن إلي ، وبدأ يندب الحال السورية ثم وعظ : أرأيت ما فعلت بنا الحرية ؟ ثم شتم أخت الحرية ، وأمها، وشرف قريباتها . برزت زوجته من المخرج اليميني ، فتوقف الشتم . وصلتْ تجرّ حقائبها الكسيحة جراً على الأرض ، فالحصول على عربة يقتضي حمل عملة معدنية هي اليورو من الوطن ، وهو ما يغفل عنه المسافر القادم ، فساعدته في حمل حقيبة ثقيلة ، مغضياً عن شتم قريبتي الحرية ، ووجدت له وصفاً مناسبا من قاموس الإعلام السوري ، هو "من ضعاف النفوس" وهو وصف أطلق على محمود الزعبي في هوامش انتحاره، في الإعلام السوري ، تخفيفاً للكارثة الرسمية .

فجأة خرجت العروستان معاً ، يبدو أن وحدة الحال ، وثياب السندريلا ، جمعتهما ، وهما من مناطق متباعدة ومختلفة ، ولمّت منهما شملهما في الرحلة . توجه العريسان إلى العروسين ، فنبح زمور الإنذار لتجازوهما منطقة أمان الانتظار ، وظهر أن خطأ مطبعياً وقع ، قد يكون سببه دوار الشوق ، فقد احتار كل عريس في عروسه ؟ أمن المعقول أن يخطئ العريس في عروسه ؟ الأمر يشبه مكيدة كاميرا خافية ، والشبه بين العروسين غير كبير ، مؤكد أن العريسين تبادلا مع العروسين الصور ، وتحادثا عبر وسائل الواتس والماسنجر والسكايب ساعات طوال ، وتبادلا الأحلام ، فكيف يقع مثل هذا الخطأ ؟ أصلح أحد العريسين الخطأ سريعاً ، واهتدى إلى العروس الصحيحة ، فرضي العريس الثاني بالعروس الباقية ، وعانق كل عريس عروسه ، وصفق بعض الحاضرين ، وزغردت إحدى السيدات .

ابني تأخر كثيراً ، وكل ما ظهر شاب ، اتجهت إليه ، وأنا أكاد أرتكب الخطأ المطبعي نفسه ، فدوار بحر الشوق يسبب الدوخة ، الحيوانات تميز عجولها من الرائحة . بادر الجمعان إلى زفّة شامية مشتركة في بهو المطار ، امتزجتْ فيها صيحات العرس الحلبية بالشامية ، تسابق إليها الألمان للتصوير والصور التذكارية ، ظناً أنها نسخة من فيلم مماثل لفيلم العروس لريتشارد غير وجوليا روبرتس . أوشكتُ أن أصاب بأعراض دوار الشوق ، فكلما ظهر شاب ظننته ابني . الشوق في الغربة يشبه القمار ، وهو الذي جعل صريع الغواني وصقر قريش يهويان نخلة ، شبيهتهما في التغرب والنوى . وجعل امرئ القيس مواطنا عالميا بقوله: كل غريب للغريب نسيب . تأخر البطل كثيراً ، ظهر بعد ساعتين من موعده . وجدت السيدة الألمانية تصوره ، من غير خوف من تهمة انتهاك الخصوصية ، تأميم العواطف في المطار على أشده ، شيء يشبه المهرجان ، وصل ابني أخيراً ، بعد العناق الطويل ، وتبادل الروائح القديمة تأكدت ، هذا ابني ، وها هو الثقب في أصل أذنه .