دولة

من بيضيبيديا، الموسوعة الفارغة
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

الدولة نظام سياسي ولد على القوة واحتكار العنف من كل المجتمع مثل شفاطة قوية سحبت كل العنف من يد كل الأفراد واستأثرت بكل العنف في يدها مقابل توفير الأمن للأفراد الذين يعيشون في كنفها وهو ثمن باهظ للتخلي عن الفردية مقابل الاندماج في الحياة الاجتماعية، ولكن بنفس الوقت لم تنشأ الحضارة لولا هذه الغلالة الواقية من الأمن التي تحسم النزاعات بين الأفراد. إن منظرا بسيطا من حادث ارتطام سيارتين وحضور الشرطة يعطينا معنى حضور الدولة من خلال ممثليها (الشرطة) حاملين مسدساتهم جاهزين لردع أي متمرد على النظام من خلال القوة العارية.

تعودنا منذ الطفولة على رؤية الشرطة بأسلحتهم أو القوات المسلحة في استعراضاتها العسكرية للصواريخ والمدافع تحمل التهديد المبطن لمن تسول له نفسه تعكير الأمن. وهي عار كبير على الجنس البشري باستعراض أدوات القتل، ولكن الجنس البشري ليس إلا في أول رحلته الانثروبولوجية والحضارة ليس لها من العمر إلا ستة آلاف سنة مقابل وجود الإنسان على الأرض منذ ستة ملايين من السنين.

جرت العادة عندما يموت الملك في فارس في العصور القديمة أن يترك الناس خمسة أيام بغير ملك وبغير قانون بحيث تعم الفوضى والاضطراب جميع أنحاء البلاد وكان الهدف من وراء ذلك هو أنه بنهاية الأيام الخمسة وبعد أن يصل السلب والنهب والاغتصاب إلى أقصى مدى فإن من يبقى منهم على قيد الحياة بعد هذه الفوضى الطاحنة سوف يكون لديهم ولاء حقيقي وصادق للملك الجديد إذ تكون التجربة قد علمتهم مدى رعب الحالة التي يكون عليها المجتمع إذا غابت السلطة السياسية.

يبدو أن الخليفة يزيد بن معاوية الأموي قام بتجربة اجتماعية ناجحة من هذا النوع عندما استباح مدينة النبي محمد كما يذكر المفسر والمؤرخ ابن كثير عن وقعة الحرة فضربت مكة بالمنجنيق واستبيحت ثلاثة أيام كاملة وسرقت ونهبت واغتصب فيها ألف عذراء من بنات الصحابة أو كما يقول ابن كثير "ومفاسد عظيمة ليس لها حد ولا وصف". وأمام هذه المتحارجة التي لم يجد الفقهاء لها مخرجا قالوا بأنه لا يجوز الخروج على الإمام الفاسق لما في ذلك "من إثارة الفتنة ووقع الهرج وسفك الدماء الحرام ونهب الأموال وفعل الفواحش مع النساء"؟

لم يخطر في بالهم إلا حلين لا يتقدمان في طريق الحل إلا بإلغاء كل حل بين العبودية والانقلاب الدموي. وغاب عن بال الجميع كيفية صناعة المجتمع وفق المنهج النبوي بالمقاومة السلمية. ومازلنا حتى اليوم محتجزين في قبضة السيف الأموي. وإذا كان الأمويون أنجبوا عمر بن عبد العزيز العادل ثم اغتالوه فإن العباسيين ذبحوا الأطفال وأكلوا على سجادةٍ يحشرج تحتها بني أمية، ونبشوا قبورهم ثم صلبوا بقايا جثة أحدهم. وفي الصراع على السلطة احتز المأمون رأس أخيه الأمين. وأما سلاطين بني عثمان فكانوا يستفتحون العهد الأميري بقتل جميع أخوتهم بفتوى من شيخ الإسلام أن الفتنة أشد من القتل.

يذهب الفيلسوف البريطاني برتراند راسل في كتابه (Power) إلى أن أعظم مشكلة اجتماعية تواجه البشر هي التوفيق بين الرغبات الفردية والذوبان الاجتماعي إنه من المجدي للمخلوقات البشرية أن تعيش في جماعات ولكن رغباتها تظل فردية إلى حد كبير، خلافا لرغبات النحل التي تعيش في خلاياها، ومن هنا تنشأ المتاعب الاجتماعية والحاجة الماسة إلى قيام حكومة. ولكن المشكلة هي أنه بقدر الحاجة إلى ولادة الدولة بقدر مخاطر نشوئها من احتكار السلطة بيد طاغية أو رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون. ويقرر راسل أن الحل صعب بين فوضى الغابة وطغيان الدولة وأن الفوضى والطغيان يتشابهان في نتائجهما المدمرة ومن الضروري التوصل إلى حل وسط إذا أريد للمخلوقات البشرية أن تنعم بالسعادة.

يقول علي الوردي في كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) في تفسيره "سبب التنازع البشري أن الحكومة استطاعت أن تحسم النزاعات بين رعاياها بواسطة أجهزة القضاء والشرطة وما أشبه، وهذه الأجهزة قد تكون متفسخة أو جائرة ولكن وجودها خير من عدمه فلولاها لتحول النزاع بين الأفراد إلى قتال عنيف وأكل بعضهم بعضا. ويصح أن نقول ان مثل هذا عن الحروب التي تنشب بين الدول ستظل مستمرة إلى أن تظهر قوة عالمية قاهرة تحكم في منازعات الدول. إن الدول الآن تعيش في نفس المرحلة التي عاش فيها الأفراد قبل ظهور الحكومات المحلية فكل دولة تريد أخذ حقها بحد السيف .

رأينا هذا واضحاً في ملوك آشور وأور والفراعنة أو ممارسة ذلك بدون ادعاءه حتى اليوم في جو الدكتاتوريات. الطغيان يبدأ عندما تنتهي سلطة القانون والشرطي الذي يتجاوز حدود سلطاته يتحول إلى لص أو قاطع طريق. بل إن جرمه يكون أعظم إذا صدر عمن عظمت الأمانة التي عهد بها إليه . أن الأحادية كارثة , فالذين يريدون إخماد الرأي الآخر هم أنفسهم غير معصومين من الخطأ ومن ثم فهم عندما يرفضون الإصغاء لأي رأي مخالف فإنما يزعمون لأنفسهم العصمة من الخطأ.إن جذر الطغيان مرتبط بامتلاك القوة و كل سلطة مفسدة والسلطة المطلقة مفسدة مطلقاً" وموقف الطاغية هو موقف ذلك الذي يقطع الشجرة من أجل قطف ثمرة.

وينقل عن كونفوشيوس هذه القصة فعندما مر على مقربة من جبل تاي أبصر بامرأة تقف إلى جانب أحد القبور وتبكي بمرارة وحرقة. فسارع المعلم إليها. وبعث بتلميذه يسألها: أنك لتبكين يا امرأة وكأنك احتملت من الأحزان فوق الأحزان. فردت المرأة تقول: وكذاك الأمر فقد قتل نمر والد زوجي في هذا الموقع. وقد قتل النمر زوجي أيضاً. وها هو ولدي قد مات نفس الميتة أيضاً. فقال المعلم: ولماذا .. لماذا لم تتركوا هذا المكان ؟ فردت المرأة : ليست هنا حكومة ظالمة . فقال المعلم آنذاك تذكروا قولها يا أولادي: إن الحكومة الظالمة أشد فظاعة من النمر .