التراب مركب وليس عنصر أي أنه مزيج من عدة مواد وعناصر يختلف في طبيعته باختلاف التربة والمناخ وعوامل مساعدة كالماء والكوارث الطبيعية ، وبالتالي تربة البراكين مختلفة عن تربة الجليد مختلفة عن تربة الصحاري والأراضي الزراعية ، والتربة الثابتة مختلفة عن المتحركة في الزلازل ، هذا يعني أن القول بخلق الناس من تراب يطرح سؤال فوري : ما هو التراب المقصود ؟ , هل تراب أيسلندا الجليدي أم المصري الأسود أم العربي الأصفر والياباني الأحمر ؟ وإذا كان التراب ليس عنصرا بل مزيج من عدة عناصر فلماذا لم تذكر الأديان تلك العناصر كأصل بديل عن التراب ؟ .

قصة خلق الإنسان من طين ذكرت في معظم الحضارات والديانات , في السومرية واليونانية والمصرية القديمة ، وفي كل الديانات الإبراهيمية الأخرى , المسيحية واليهودية بل عند الأفارقة والهنود الحمر ، وعند الفراعنة اعتقد المصريون أن الإله خنوم هو الذي خلق البشر من طين . ذكر خلق الإنسان من طين له عدة تفاسير ودوافع ليست كلها واحدة، منهم من كان يربط بين لون الناس والتراب ظاهريا ، فالأوربي أبيض لأن ترابه أبيض , والهندي أحمر لأن ترابه أحمر ، والمصري أسمر لأن ترابه أسمر . أما الثاني لملاحظتهم أن الإنسان يتحول لتراب بعد تحلله , وبالتالي مادة النهاية هي نفسها مادة البداية ، والتفسير الثالث إشارة لحقارة الدنيا ووضاعتها بخلق الإنسان من أرخص وأحقر ما فيها.

التراب قبل النطفة ، بالتالي المقصود أنك مخلوق رخيص عديم القيمة لا يجوز لك التكبر ، وكما بدأت ستنتهي ، وهذا المعنى ذكر في آية الحج

يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة

العالم عرف الخلق والنهاية بقانون أبدي . كما جئت من العدم ستذهب إلى العدم . هنا التراب إشارة للعدم وليس ترابا كمادة مركبة نعرفها ، وأي محاولة تطويع النص بمعناه الظاهري سيتورط الفقيه كما تورط فقهاء المسلمين الذين اجتهدوا في الربط بين العلم والدين كما فعل عمرو خالد مثلا بحصره التشابه بين عناصر الإنسان والتراب , فهو من ناحية لم يقل أن هذا التشابه موجود حتى في الماء والشجر باعتبارهم من مكونات الطبيعة مكتسبين بعض عناصر الحياة , ومن ناحية أخرى لم يفصل المرحلة التي سبقت النطفة، يعني كيف تحول التراب إلى نطفة ؟ هذا السؤال مُعجِز .

الحل لكل هذه المعضلات والتخاريف هو تفسير التراب بالعدم والرخص واعتبار ذلك مقصد الحياة . وبحسبة تدبر بسيطة ستلاحظ أن مادة خلق الإنسان سبقت أشياء عظيمة ، فتسوية الناس رجالا بعد خلقهم من تراب مفارقة بين العدم والقوة , قس على ذلك كل آيات الخلق الأخرى ستجدها تقارن بين العدم وشئ آخر عظيم , والغريب أن الله ذكر ذلك المقصد في آخر سورة النبأ "إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا" . فهل يقصد ان الكافر أنه سيعود لمادته الأولى أم يعود إلى العدم والرخص والفناء كي لا يرى العذاب ؟