الكهرباء في العراق
حدثنا عيسى بن هشام . قال : وصلت إلى بلاد الرافدين , قادما من البحرين . فبينما أنا في بعض أسواق ميسان , أتأمل الشعارات المخطوطة على الجدران . إذ طلع رجل بمولدة صغيرة قد اعتضدها, وعصا قد اعتمدها, وكوفية قد اعتمرها. فرفع عقيرته . وقال : اللهم يا مبدئ الأشياء ومعيدها, ومحيي العظام ومبيدها. وخالق الكهرباء وتيارها , وفالق المصابيح وأنوارها. أسألك أن تعينني على الأسلاك التي تقطعت أوصالها, وعلى إصلاح هذه المولدة التي توقف اشتغالها. وأنشأ يقول :
إن يبلغ السيل الزبى يكن الدمار | هي ذي طقوس الإنهيار |
فدنوت منه . فإذا هو الشيخ محسن بن جبر . فقلت له ما بك يا شيخ ؟. فقال : لاَ نَصْرَ مَعَ الخذَلاَن، ولا حيلة مع الحرمان . فنحن نبكي في الظلام , ونضحك في الظلام , ونأكل في الظلام . حتى لم نعد نميز أصابعنا من طعامنا , وأبوابنا من شبابيكنا. فقد تسيدت جيوش الدياجير , واقتادت خيوط النور إلى الأحافير , فاشترينا المولدات بآلاف الدنانير . لتأمين الإضاءة والتنوير . وأنفقنا اجورنا والرواتب , حتى خسرنا كل شيء إيها المعاتب .
قال عيسى بن هشام : فشهدت شواهد حاله , على صدق ما قاله . ثم قال الشيخ : تشوينا حرارة الصيف . وننام في الليل على الرصيف . وتكوينا الشمس اللاهبة , ويزعجنا ضجيج المولدات الصاخبة. وتحرقنا الرياح اللافحة . ونتبرد ب مياه المالحة. حتى تيبست جلودنا , وضعف عودنا , وتبدد صمودنا . فمصيبتنا أطول من أن تحد , وأكثر من أن تعد . فاستعنا بالصبر والدعاء, والعويل والبكاء , على ما فعلته بنا الكهرباء. وها نحن نرضع من الوعود ثدي عقيم, ونركب من الأمل ظهر بهيم. فهل من كريم يجلو آثار هذا الكابوس , ويزيح عن كاهلنا قيود النحوس . ويعيد البهجة إلى النفوس .
قال عيسى بن هشام : فأشفقت على الرجل , وحملت معه المولدة على عجل . ثم اشتريت له جليكانا من النوع المتين , لكي يستعين به في حفظ البنزين , وتخزين الوقود والكيروسين . فلما وصلنا إلى داره , وأسدل علينا الليل ستاره . فرش الشيخ بساطه , ومد سماطه . وتناولنا العشاء في الظلام الدامس . وتحسسنا أصناف الطعام كذوات اللوامس . ثم استلقينا في العراء , وانشغلنا بمراقبة نجوم السماء. واشتد اللهيب المحموم, وهبت علينا رياح السموم . فولينا ظهورنا الأرض , وعيوننا لا يملكها غمض . نتقلب ذات اليمين وذات الشمال , حتى قضينا وطرا على هذا الحال . فامسك الشيخ بالمهفة, وهو ينتظر عودة الكهرباء بلهفة. ثم راح يناجي مهفته, ليسلي من عنده. فأنشأ يقول :
ومحبوبة في القيض لم تخل من يد | وفـي الـقر تجفــوها أكف الحبائـب |
إذا ما الهوى المقصور هيج عاشقا | أتت بالهوى الممدود من كل جانب |
قال عيسى بن هشام : فقلت كان الله في عونكم يا شيخ . فنظر إليّ نظرة مكسورة , وذرف دمعة مستورة . وقال : لو فتشت خارج العراق , وجبت الثغور والآفاق . والبدو والحضر, وتميم ومضر , وموريتانيا وقطر , وعمان ومصر . لم تجد فيها قرية بلا كهرباء, وليس فيها من يعاني من سموم العقرباء. فنحن نعيش في العصر الجلكاني , ويصعب حالنا على القاصي والداني . هذا ونحن أكثر الناس بترولا ونفطا, وطاقة ووقودا, وأرصدة ونقودا . أنهارنا عجب , وأرضنا الذهب . أولها الرطب , وأوسطها العنب , وآخرها القصب . فجعجع بنا الدهر إلى ذل الكهرباء, وتراكم المولدات بالفناء. ومد الأسلاك في العراء.
قال عيسى بن هشام : فلما انتضى نصل الصباح , وبرز جيش المصباح . تركت ميسان في هذه الظروف الكأداء, والعيشة الضنكاء, وقررت الكف عن النقد والهجاء , ومشاركتهم في معالجة مشاكل الكهرباء. فحبذا لو تضافرت الجهود. وحبذا لو أوفت وزارة الكهرباء بالعهود . والتزمت بالوعود . واندفعت نحو المحمود. وتجاوزت القيود . لتحقيق الهدف المقصود . ونتمنى لها النجاح في إصلاح المحولات , وصيانة المحطات وتوفير المستلزمات , وتنفيذ المتطلبات والله ولي التوفيق في كل الأوقات.
مصدر
- كاظم فنجان حسين الحمامي , مقامات آخر الزمان / المقامة الكهربائية [1]