أسمهان

من بيضيبيديا، الموسوعة الفارغة
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

أسمهان (1912-1944)، لطالما سحرتنا بأغنية «يا حبيبي تعال الحقني» ولحنها المميز الذي كان مختلفاً عن السائد من الألحان العربية في عصرها. وكنا نتساءل من هذا الذي استطاع أن يقدم مثل هذا اللحن الشجي في أوج عطاء ملحنين عظماء كعبد الوهاب وزكريا أحمد والسنباطي. لقد صدمنا جميعا بأن هذا اللحن منقول حرفياً من أغنية بالإسبانية عنوانها «اليتيم» [1]. الممثلة ماري كويني، قد غنّت هذه الأغنية قبل أسمهان العام 1936 في فيلم «زوجة بالنيابة» [2]، والمخرج والممثل أحمد جلال، زوج ماري كويني، كتب الأغنية خصيصًا لزوجته، ثم قدمتها أسمهان بعد ذلك وتألقت بها حتى كاد ينطمس ارتباط الأغنية بماري كويني. لكن شتان بين صوتها وصوت أسمهان الساحر وإحساسه العالي.

ربما كانت أسمهان بريئة من الانتحال، إذ لا بد أنها استأذنت من المنتحلة الأصلية ماري كويني. كويني هي المذنبة. لكن مهلاً. ربما كانت ماري بريئة من الانتحال هي الأخرى، فلعلها لا تعرف أن زوجها لطش لحن الأغنية الأسبانية ونظم على أنغامه كلمات عربية يتضح لسامعها بلا كبير عناء أنها كلمات مركبة. لكن مهلاً من جديد. هذا هو مؤلف الكلمات وليس الملحن. سنفترض إذن أن أحمد جلال طلب، بصفته مخرج الفيلم، من ملحن مغمور اسمه مدحت عاصم، أن يلحن له لحناً راقصاً يصلح للفيلم.

لماذا لجأ إلى ملحن شاب لم يتجاوز عمره 27 عاماً حينها؟ الجواب واضح وضوح الشمس: البخل والتقشف. إنه فيلم عائلي بامتياز. أحمد جلال هو المؤلف والبطل والمخرج. تشاركه البطولة آسيا داغر، خالة زوجته التي تشارك في البطولة هي الأخرى. كل هذا لكي لا يدفع المنتج مالاً إضافياً. مَن المنتج؟ آسيا داغر لا سواها، بشركتها «لوتس» والمونتاج اضطلعت به ماري كويني!.. يا للشح!. أراد أحمد جلال لحناً مميزاً من ملحن شاب مغمور، كي يضمن أن يكون أجره زهيداً، وربما فرض عليه أن يفرغ منه في فترة محدودة. لم يجد هذا الشاب المسكين حلاً إلا أن ينتحل، فسرق اللحن الإسباني وسلّمه للمخرج، الذي واصل بخله ولم يكلف نفسه طلب كلمات الأغنية من شاعر جيد، إنما قرر هو تأليفها بنفسه ترشيداً للنفقات، فكان أن هرع إلى مطبخ شقته وهو يكلم نفسه:

لازم الأغنية تتغزل في جمالي وطعامتي بما أني بطل الفيلم.

وهناك تلبَّسه الجنّي الذي كان يتلبس شعروري الجاهلية، فكتب على لسان البطلة: روحي وقلبي وجسمي وعقلي وجمالي، في يدك، محتارة أعمل لك ايه في دلالك وف صدك. ولأن صوتاً ساحراً كصوت أسمهان قادر على أن يخفي كل ما في أي أغنية من عيوب، كما تنظف أسفنجة مبللة بقايا الطعام في صحن زجاجي، فقد انطلى هذا النَّظمُ علينا وصرنا نقاسمه حصة من الولع والبراءة التي لا تنفع أحداً.

عيون أسمهان[عدل | عدل المصدر]

بعدما نزلت الفتاة الجميلة من جبل الدروز إلى حي السكاكيني في القاهرة مع أمها وأخوتها. كانت أمام عيون أسمهان الجميلة تخفف القصبجي معها من جملته الموسيقية، حتى صارت طيّعة للحنجرة اللينة المليئة بالحزن والأشجان. صارت القاهرة طيّعة، وجمال الوجه مع الصوت المليح بركة، وبدأت حومة العشّاق، وكل عاشقٍ معه لحن ولغز وحكاية، تنقل الجميلة من بلد إلى بلد، ومن حكاية إلى حكاية ومن حزن إلى حزن، والجميلة ركبت الريح في سنواتٍ تسع، مرّة تدخل حديقة مدحت عاصم الصغيرة على أوائل حدائق القبة بلحن «دخلت مرة الجنينة»، فينتشي الورد وتصفو الصحبة. جملة موسيقية خفيفة، كأنها تحلق في سماوات الأوبرا، وحزن دفين وكأنها صعدت ثانيةً كي تغني في حدائق الدروز بلحن معاصر يخطف الألباب. الأحزان طالت منها كل شيء إلا العيون والحنجرة.

هل لأجل جمال تلك العيون والخوف منها أيضا أصرّ الموسيقار محمد عبد الوهاب أن تغني أسمهان أغنية «محلاها عيشة الفلاح» بصوتها فقط من غير صورتها، واستبدالها بأخرى؟ هل لأن الأغنية اعتبرها أجمل ما ترك، ولا يريد أن يترك خلف ظهره سيدةً جميلةً تغنيها بصورتها الجميلة، فيتم نسيان صوته هو؟ فاختار الأسلم له وللأغنية، ويحتفظ الناس بجمال صوت أسمهان فقط كما شاءوا. ماتت أسمهان، وركبت أم كلثوم مركب الغناء تماما، وتمخطر صوتُها ثلاثين سنة بعد موت أسمهان، زارعا النيل وأرضه بأطيب الألحان والحكايات، حتى صارت تميمة العرب في السهل والجبل والطمي، من الفلاح إلى العامل إلى الفقيه إلى الأزهري إلى الموظف الصغير، حتى قال بعض الخبثاء إن لأم كلثوم يداً في موت أسمهان... نسي الناس التهم وتمتعوا بصوتين، واحد ناعم كالنسيم قد أتى من جبل الدروز، وآخر خشن في اللوعة، وطريّ في الحنان كطمي النيل يتحمّل الأحزان.

ظلت دماء أسمهان مطيّة للمجالس، حتى جاء ثابت الخرباوي، ووضعها مرة واحدة بضربة فأس غشيم على أكتاف الإخوان المسلمين، وقد كان أولى بهم أن يقتلوا أم كلثوم التي بدأت قبلها بـ 15 سنة، وواصلت بعدها لـ 30 سنة، وملكت القلوب منهم ومن دعوتهم، ولكنه العبط حينما يختار صاحبه. ولكنه عبط يظهر بلا سبب، وينتهي من غير سبب أيضا، كذلك الأمر الذي جعل العسكري ناصر يدخل فجأة دشمة النقيب صلاح، ويسأل عن أسمهان: «مين دي؟»، فيرد عليه عسكري: «دي مطربة ماتت يا عبيط من زمان»، فيتعجب ناصر ويقول: «والتراب يقدر ياكل العينين دي؟»، فيضحك النقيب صلاح. ابن بلدي الجميل الذي لم يعمّر في الجيش، بعدما أخذ رتبة رائد، وذهب بعدها إلى ليبيا بصحبة زوجته الصيدلانية، ولم يعد.