ليلة القدر هي ليلة تقع في شهر رمضان ، حيث يظل بصر المسلمين معلقاً بالسماء ، بعد أن أقنعهم أخ كبير أن السماء ستنفتح للمحظوظين ، وما على المحظوظ غير أن يضمر أمنية في لحظة الفتح ، وستتحقق الأمنية مباشرة في حي بسيط ، ينبعث منه مزيج من روائح العفونة والطهو الرخيص ، وأحشاء الدجاج الملقاة على الأرصفة ، وليس في الأفق ما يشير إلى أن شيئاً من الأمنيات قد تحقق لأهالي الحي البائسين ، منذ أول بيت صفيحٍ . نحن الأطفال ، كنا نحمل جذوة الأمنية في ثيابنا المرقعة، لأننا لم نختبر الخيبات بعد ، وفي أفئدتنا توق كبير لإدخال البهجة إلى نفوس آبائنا المكدودين بتعبٍ لا يعود عليهم وعلينا بأزيد من قيد الحياة.

كنا نأمل بخلاص سماوي ، ينقلنا من شفير اليأس إلى ذروة الأمل ، بسلاح ليلة القدر ، ولم نكن نعلم حينها أن لتلك الليلة معنى آخر ، لا يدركه غير الكبار الذين لم يعودوا يبالون بأكثر من حسن الختام ، بعد أن استنفدوا رصيد أحلامهم على خدعة الحياة ، فآثروا توجيه الحلم إلى الحياة الأخرى التي تعدهم بالكثير . صحيح أنني لم أكن محظوظاً في ليلة القدر الأولى ، غير أن التجربة استحوذت على طفولتي كلها ، ولم أفقد الأمل ألبتة ، وعزمت على تكرار المحاولة في السنة التالية ، مع مزيد من الأمنيات التي باتت تتجاوز حد الخلاص من الفقر بكثير ، والتي كانت انعكاساً مضاداً لخيبات جديدة ، كنا نلمحها في عيون آبائنا ، خيبات معيشية وسياسية واجتماعية ووطنية وقومية ، فصرت أحلم بانفتاح السماء ، لتسقط منها فلسطين محررة من النهر إلى البحر ، أو بسقوط وطن خال من القمع والاستبداد ، أو بسقوط الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج .

غير أن السماء أبت أن تنفتح ، لتنتشلنا إلى خانة الأطفال المحظوظين ، ولم نيأس ، خصوصاً حين كنا نلمح بعض الكبار ، يشاركوننا السهر في ليلة القدر ، ويختلسون النظر إلى السماء ، بين الفينة والأخرى ، من دون أن يشعرونا بأنهم ينتظرون معجزة ما ، وهو ما كان يدفعنا إلى مزيد من اليقين بأسطورة انفتاح السماء . مع رحيل الطفولة ، وانضمامنا إلى فلول الكبار ، لم يتغير الكثير ، إذ لم نزل ننقسم إلى فريقين ، في ليلة القدر ، فريق يعقد الآمال على حسن الخاتمة ، وفريق ينتظر المعجزات التي طال انتظارها ، وما بين الفريقين ، لا وجود لفريق ثالث يبحث عن حسن البداية ، أو عن صناعة المعجزة .

الفريق الأول في معظمه ، يفر من الدنيا العربية واستحقاقاتها التي تتطلب قليلاً من التمرد على أنظمة الاستبداد ، ونشدان الحرية، وقول كلمة الحق عند سلطان جائر ، فيبحث عن الخلاص بالحياة الآخرة ، متناسياً أن الحياة الدنيا تستحق أن نحياها بكرامة أيضاً ، وأن نكافح فيها لبلوغ الحرية ، ومقارعة الظلم وانتزاع الحقوق ، وهي الأهداف الأسمى لوجودنا عليها، غير أنهم ، عوضاً عن ذلك ، يهربون من هذه الاستحقاقات ، مؤثرين النجاة بجلودهم وحيادهم ، تاركين الأرض لمن يحتلها، لا ليحرثها ، والشعوب لمن يستعبدها ويذلها، لا لمن يعلي من شأنها.

على الطرف المقابل ، ينفق الفريق الآخر سحابة عمره ، بانتظار أن تنشق السماء عن معجزة إلهية ، تكون حلا شافياً لسائر المعضلات العربية ، المثقلة بجوائح الفق والنهب والفساد والقهر والاستبداد والتخلف والقطرية ، وتداول الاحتلالات الأجنبية ، معجزة تسقط لهم وطناً حديثاً متطوراً ، فائضاً بالعدل واحترام الحقوق والرفاه ، وعلى أهبة الاستعداد لطرد المحتل والغازي ، ولا بأس ، إن طال الانتظار ، من ليلة قدر إلى أخرى ، وأخرى ، ما دام هذا الانتظار هو الحل الوحيد لتحقيق الأمنيات .

الأنكى أن الطرف الثالث ، المؤمن بـ صناعة المعجزات ، وعلى قلة العاملين عليه ، يجد نفسه غريباً ومنبوذاً وموضع سخرية من الطرفين الآخرين ، فضلاً عن وأده في مهده من أنظمة الاستبداد العربية التي ترى فيه خطراً على فسادها وتسلطها، فيما تنظر إلى طرفي حسن الختام وانتظار المعجزات بأنهما الطرفان اللذان يحققان شروط المواطنة العربية الصالحة. عموماً، بات جل ما نخشاه، أن تنشق الأرض وتبتلعنا جميعاً، فيما نحن ننتظر أن تنفتح علينا السماء .