ساحة التحرير

من بيضيبيديا، الموسوعة الفارغة
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

ساحة التحرير في بغداد التي تركتها منذ اكثر من اربعين عاماً، لم تحظ بوارد الكتابة عنها، بأي فحص عميق لعينيّ عندما زرتها بعد السقوط في عام 2003، فكانت زيارتي لها آنذاك خاطفة، بل هربتُ منها لشدة اغترابي لمشهدها غير الأليف بالمقارنة عن ما كانت تحمله عينيّ بأثر سبعيني من القرن الماضي، وهو المشهد الذي اتضع وقتها عن رضانا، نحن الشباب آنذاك، برغم جماله فهي مساحة هائلة في بغداد الحلم والحب والدرس والسياسة والأدب والمكتبات والغناء والعلاقات والمقاهي والسينمات فتخطفني الساحات بمحبة كعادتها، ليس على غرار خطف الأحرار فيها كما يحدث الآن... فأسمحوا لي أن اعود لضالتي "التحرير".

  • إلى التحرير
  • عمي الطرق مسدود
  • طيب رجعني
  • وين؟ سألني سائق التكسي
  • لكوبنهاكن غير!
  • ضحك من كل قلبه وقال والله لا اوصلك حتى لو اروح للبصرة!

جولة طويلة، سأصف ما شاهدت باختصار، فقد توزعت بين الحديث مع السائق الشاب وبين المناظر بشكليها، الممتع منها والمثير على الغثيان. أما الممتع فهو، الطبيعة الرائعة ودجلة وسماء بغداد وشمسها، وكل ما هو عن بعد، أما المؤلم منها فهو كل ما انقض وتهدم وتداعى وهرم وأُهمل، وهو بأختصار بغداد. لا أعرف هل اشكر السائق أم اندب حظي، هل افرح أم ابكي، لكنني بالنهاية بكيت.

  • عمي شبيك؟ وأردف: اكيد ما جاي من زمان.

اعادتني كلمة "زمان" الى اسى مضاعف اوقف قدرتي على الرد. أي زمان هذا الذي لا يعرف فيه ساكني بغداد ما حصل لمدينتهم! فلا تكاد ترى ملمح متحضر واحد سوى بضعة مطاعم كبيرة ومحلات. أما منظر البشر فكان مهملاً للحد الذي يشي بأن المدنية غادرت المدينة وغادرتهم منذ زمن بعيد. مشهد الرحلة الى ساحة التحرير كانت أشبه بطلقة اخترقت رأس شاب على جسر السنك، شاهدت كثيرا منها على شاشة ابداع القرن الرقمي، يحمله اي واحد منا في جيبه، ليُعلمه بموت شاب جديد. اما ان تعيش الحالة واقعا فالأمر مختلف تماما عما هو عليه، حيث نتسلى بالكلام ونتغنى بالنصر وربما نأكل او نشرب ونقلب الأخبار، انها الجريمة؛ جريمة قتل البلاد أعيشها الآن.

اوقفني السائق وقال: ساحة النصر هناك وتستطيع المشي عمي الى التحرير. هممت بدفع الأجرة التي عرفتها قبل الركوب، مضاعفا اياها، فتبسم الشاب ورفض. هل تستطيع يا قارئي العزيز بماذا اجاب هذا الشاب الذي حدثني عن حياته، لينتهي به الأمر كسائق، خلال الرحلة التي استمرت زهاء ساعة ونصف ليوصلني الى مشارف ساحة التحرير؟ قال: بعدنه عمي انحب الضيوف ونقوم بالواجب! .صعقت لهذه البلاغة!. قنينة عطر جلبتها معي من كوبنهاكن لصديق على اتفاق ان اكالمه حينما اصل، راحت عليك قنينة العطر يا ابو فلان، اخرجتها من حقيبتي، قدمتها له بخجل فقبلها مني بعد عناء. لم يتركني قبل ان ينزل ويعانقني ويترك رقم تلفونه لأي طارئ. بكيت أكثر وتنفست أكثر فأنا الآن ببغداد.

خرجت الى رأس الشارع متلفتاً أين التحرير ، «يسره لو يمنه»؟، مصيبة اخرى، بغداد لا اعرفها وانا الذي اعرف خارطتها حق معرفة! مفارقة واحدة جعلتني اهتدي للمسار الصحيح، هو أينما يتجه اكثرية الناس، ولا اقول الجموع لان اليوم الذي قصدت فيه التحرير لم يكن مناسبة للتظاهر، ولكنه كان شبيها بها. لم اعرف اين اوجه نظري، للبنايات الهزيلة التي لم تلمسها يد رحيمة منذ زمن، ام الى كابلات الكهرباء العشوائية، ام الى صراخ آلات تسجيل البائعين المتجولين ذي الأكشاك المتنقلة وهم يروجون لبضاعة ما، ام الى موقع قدمي اللتين تعثرتا بحفر الشارع والأرصفة، ام الى ماذا وماذا..، حتى اهتديت الى الوجوه. صدمت للمفارقة! هل انني في حلم؟ والله قرصتُ نفسي لأستفيق. وجوه مبتسمة صافية ودودة، دهشت حتى هاد ذهني للإجابة بصيغة سؤال. كان ذلك عند اول خيمة سآتي عليها، لكن الآن هؤلاء الشباب على بعد أمتار من مفرزة للأمن او الشرطة، عند اول مدخل من جهة ساحة النصر، عند الحاجز الإسمنتي، ايام كانت مزدهرة، بمكتباتها ومقاهيها "الكيت كان" و"اكسبريس فلسطين" وغيرها من خطوط الطيران الأنيقة المكاتب والسينمات ذات الصالات الرافهة كأكبر واجمل صالات العرض في الشرق الأوسط، اين تلك الشواهد الآن كيف اختف! شاب يخجل من سؤاله:

  • عمي لازم نفتش.
  • تفضل فتش عمي هاي جنطي.

نظر الي الشاب مع صديقه بعينين ذكيتين ليزريتين وكانه فحص جسمي وما معي.

  • تفضل عمي
  • ليش ما فتشتني؟
  • عمي اكو سره وراك تفضل، مبتسماً
  • لا لازم تفتش. قلت.
  • فتشتك عمي عندك موبايل وجواز سفر وهويات وشوية اوراق وقلم وفلوس. بس دير بالك بالطلعة تعال منا عمي اخذ تكسي.

كان ذلك اول اشارة ان هذا الجيل لابد ان ينتصر .لم اكن فخورا على مدار غربتي منذ السبعينيات في الخارج مثلما كنت الآن، اطلقت العنان لمخيلتي ان تهدّ المباني القديمة التي تصطف على جانبي شارع السعدون وتُبنيها من جديد وتكسو الشوارع وتطلي الواجهات وتلمّعها وترصف الأرصفة، ومجاميع من الناس الأنيقين يدخلون نساءا ورجالا المقاهي ودور السينما، والكثير الكثير.. حتى وصلت اول خيمة على الطريق قبل التحرير على يساري، انها مسرح الثورة، وهنا كان الجواب عن سبب بسمة الناس وفرحهم. كانت الخيمة مزدحمة فوقفت بعد نهايتها بأمتار مع الجمع المحتشد.لا اعرف كيف يعرفون الغريب!. تقدم اليّ أحدهم

  • تفضل استاذ اكو مكان فارغ.

لم يترك لي جوابا، حتى خجلت من الآخرين، فاصطحبني واجلسني مقعدا. كانت بقربي او جانبي امرأة تجلس على مقعد متحرك بعجلتين، بمعنى انها مقعدة، يدفعها شاب. «عجيب»! قلت لنفسي ماذا تفعل هذه السيدة المسنة هنا؟!. عازف عود يهيء اوتاره ثم يطلقها لتصدح. ينصت الجميع بجلل وانتباه، يتقدم شاب آخر يعرّف نفسه، للأسف لا اتذكر اسمه، انه طالب في كلية الفنون الجميلة قسم المسرح، ومن دون اية مقدمات أخرى راح يقرأ مقطع لقصيدة بجو تمثيلي درامي معبر، ثم يتوقف ليقول شيئاً عن القصيدة وصاحبها ومناسبتها، انها قصيدة شاعر العراق بدر شاكر السياب "غريب على الخليج"، مفككا معانيها وبعض مصطلحاتها ومنها (القلوع)، ثم يستمر بأدائه المفرط بالجمال. كيف لهؤلاء التحريرين الا يبتسموا؟! . ابتسم الجميع فعلاً وحيوه. غادرت المكان قبل ان تبدأ المناقشات والآراء وانا سعيد ومبتسم، فحيتني المرأة المسنة المقعدة وهي تهم بفسح المجال لرغبتي بالمغادرة: ها يمه رايح، الله وياك. وكأنها على علم بسفرتي المقتضبة وحاجتي لمشاهدة اكثر ما استطيع بوقت قصير، فأردفت مبتسمة: كل خيمة شكل! شكرتها وغادرت.

لحد الآن لم اكن اتصور ان شيئا كهذا سيحصل! فمن المفهوم انهم يعرفون انك غريب او مسافر من مظهرك او من شدة ارتباكك، ولكن كيف يعرفون بماذا تفكر! لا جواب طبعا سوى الدهشة. فكيف لا ينتصر هؤلاء!. تنفست عميقا عندما تأكدت بنفسي انهم سينتصرون حتما، حتى عندما رجعت الى كوبنهاكن وسألني بعض الأإصدقاء عن سفرتي فأجبتهم بصراحة حتى عن فوضى البلاد بل سقوطها، ومعها تفاؤلي بل قناعتي المطلقة بانتصار الشباب والثورة، حتى سألوا كيف تجمع الضدين فالأمر لا يستقيم هكذا؟ فأجبت هذا ما شاهدت وهذا هو شباب العراق الجديد الذي لا نعرفه، فما عليكم الا المساندة والانتظار.

ترى كيف سينتصر الشباب! مع هذا السؤال واصلت المسير وانا اتأمل سلمهم وادواته البدائية: خيمة ينز منها المطر، عود، قصيدة شعر، رسوم، قدور طعام كبيرة وابتسامة! حتى تجاوزت الملثّم! من هو الملثم؟، من هذا الملثم بكمامة الوقاية من الغازات، وهي اداة انتصار أخرى اضيفها على مفردات نصرهم المؤزر. لكن حالة العاطفة مع الدموع اوقفتني، فربما جاوزت الأمل من خلالها فعاد لي بعض اليأس وانا انظر تمثال محسن السعدون فهل ستسعفه كمامته، التي البسها اياها المنتفضون، وتحميه من الغازات والموت، ربما!، فيما أطلق طلقته على رأسه قبل عقود خائبا من فطنة السياسيين وأمل لم يخب؟. لا اعرف. قلت لنفسي مستجيرا بالأمنيات التي ما انفكت تهدني ليعلو نشيجي فأكشف عن غربتي ووحشتي، بل حبي وانا من "مثقفي الخارج" العزلاء، طالما رددها بلغاء الفصاحة وهم الآن منزوون عن ثورة قلوب الشباب الرائعة. فأين سأجدك ايها المثقف؟. ايها الشاعر والناثر والفنان.

درت برأسي فكل شيء جدير بالمشاهدة بحلوه ومره، فهنا الأشياء تعيد انتاج نفسها بنفسها، فأمام بهاء المنظر وعنفوانه البشري الصادح بالجديد، يتكشف بالمقابل حجم الخراب على مشارف التحرير المهملة فما بالك بشوارعها وأزقتها الفرعية.قلت لأترك هذا الأمر الآن وادخل النفق، الم يكن هذا احد الأسباب التي حفزتني للمجيء؟ لا ابالغ ان قلت ان قنوات التلفاز كانت غير قادرة على نقل صوته، اما صورته فالجميع شاهدها فلا حاجة لوصف انفعالات الشباب برسم الوقائع والأهازيج ودفق الخيال ليصبح متحفا. اما الصوت، صوت النفق فهو شي لم يخطر ببالي، هناك الترانيم التي تنبعث من كل صورة وكأنها تشي براسمها وهو يترنم بنغم يساعده بتوجيه خطوط فرشاته وضرباتها التي تشبه مصير اللوحة، يشدك اليها لتخبرك الحكاية، فما ان يوشك النغم على نهايته حتى يسلمك الى ما جاورها من رسم آخر!.

مشاهد الخراب تثقل على صدري، فأنك لا تستطيع الفكاك منها، كل تلك الاماكن التي تذكرنا بالحمال وبائع السمك وعلي بابا والحسان الخارجة من صدر شهرزاد كأول انصاف للمرأة، هل كثير على بغداد ان تنقذ تحفة بيوتاتها التي خرجت منها الاقاصيص والحكايات، وأهدت للعالم خيالا لم يكن يحلم به اي كاتب، ويأنس له قلب أي عاشق او مستطرف لأي تعبير، او ينبض لدراميته اي قلب خافق ويرتجف لحكاياه. تلك هي مرفقات الحكاية السرية عن حياة سطرتها الألف ليلية، وغابت في انقاض طوب الجدران والاساسات البائسة والباحثة عن جمالها، كما غيرها من الآثار البديعة، التي عبث بها جنون الساسة وجهل الاجيال، فلم تعد من جنان الأرض ولا من سابع محاسنها، وذلك عهد بعيد، ولكن ما عمره اقل من الف عام لم نره الا في الحكايات، فما فخرنا بمجد متهدم لم نمهله فرصة بقائه ولا حتى نفح نفس يسير!.

كانت الفتاة التي التقيتها في خيمة الطلبة داخل النفق مع زميلة لها تقول: نحن في تناوب هنا في كل نهار حتى يوم الأحد من كل اسبوع ظافر!. اي ظفر هذا عزيزتي الطالبة؟ وانا على يقين من الجواب الذي جاء يجرح الهواء «نفعل ما نريد، ولا نقبل بأقل الحقوق»!. حاولت استدراجها اكثر «كيف تنظمون انفسكم»؟. ابتسمت الشابة، على ما يبدو على سؤال مبتسر، لكنها واصلت. صدقوني هذا ما سمعته منها: «أنه فايروس الوطن»، والتفتت الى زميلتها التي شاركتها الابتسامة واكملت لها: «انه امضى فايروس يؤذي الحمقى»!. في تأملي الآن وانا في كوبنهاكن، ووسط هلع فيروس كورونا وثقت بأن فيروس الوطن هو اللقاح الحقيقي لمصاب العراق.

وعندما اعربت عن رغبتي بالتبرع بمبلغ بسيط من المال اجابني الطالب بالقرب بأنهم لا يقبلوا التبرعات المالية عدا الاحتياجات الضرورية. عند هذا الجواب تيقنت انهم يستديمون ثورتهم بأنفسهم، وما زعيق القنوات المغرضة عن تمويل الانتفاضة التي اضحت ثورة، سوى هراء في هراء، فكيف لا ينتصرون. وعندما ههمت بالذهاب قالوا ثلاثتهم بما يشبه الصدى العريض: نشكركم على دعمكم بالخارج» وكثير من الكلام الذي ابقاني لفترة اطول ومتأملاً بعض انشطتنا في الدنمارك التي لا يحضرها الا عددا قليلا من العراقيين المقيمين، فخجلت من نفسي فنحن هنا لا نجابه الموت والاختطاف، ولا الرصاص المطاطي والغازات ولا ابتداعات اللصوص التي وصلت لحد الآن الى بنادق الصيد يطلقونها في وجوه المنتفضين!. وكما انهم عرفوا محنتي واصلوا تحيتهم بايصال صوتهم للعالم ومؤسساته التي لم يدفئ شعاعها وعاء ماء بعد، ولكن الاصرار سيجعله يغلي بعد حين، وهذه قناعتي ان يوما موعود سيحضر لا محال. ففي هذا الماراثون الطويل سيكون النصر للنفس الأطول. الآن اعرف أن العراق سيكون بخير.

مصدر[عدل | عدل المصدر]

  • هاشم مطر