أبناء الذوات

من بيضيبيديا، الموسوعة الفارغة
مراجعة 12:56، 3 فبراير 2020 بواسطة Adonis (نقاش | مساهمات) (أنشأ الصفحة ب''''أبناء الذوات''' مصطلح كانت في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، وربما بعدها بقلي...')
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

أبناء الذوات مصطلح كانت في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، وربما بعدها بقليلٍ، لا تزال تقع في الصحف على جمللٍ من قبيل: "حضَرَ المأدُبةَ خمسون ذاتاً"... وهذا المعنى لكلمة ذات اختفى لاحقاً ولكن بقي يُستعملُ الجمع "ذوات" بهذا المعنى نفسه وقد خالطته نَكهة سخرية ونُفور مستحدثة أصبحت ملازمة له كيفما دارَ: فإذا قلت مثلاً: "أولادُ الذوات"، قلتها بازدراءٍ وقرفٍ كأنما الأَوْلى لهؤلاءِ أن تنشقَّ الأرض وتبلعهم . والواقع أا هذا ثَأْر لا إجحاف فيه من إجحافٍ فظيعٍ كانَ ينطوي عليه هذا الاستعمال لكلمة "ذات". فهو كان يُبْطِنُ نوعاً من الحصْرِ في قلّةٍ من الناس لاستحقاق هوية شخصية أو لحيازةِ أنا. هذا الحَصْرُ كان يرفع المستفيدَ منه فوق جماعةِ البشر أو، في الأقلِّ، فوق الجماعة الأهلية التي تُعتبر نوعاً من القطيعِ لا يتميز الفرد فيه من غيرهِ إذْ يكون مُفرغاً ممّا يستوي به ذاتاً. فهو ذو وجودٍ خارجيٍّي بحت بحيثُ يُنظرُ إليه ويَنْظُرُ إلى نفسهه على أنّه موضوع لا ذات له ويوشكُ ألّا يستحقَّ اسمه الذي ينفرد به . غَنيٌّ عن البيان ما لهذا التباين من تبعات في المعاملة هي في أساسِ النظام القديم.

الترقيي العمومي الذي أثمر موازين جديدة اجتماعيّة وسياسية وتضعضُعاً لطبقة الأعيانِ القديمة ولأنظمتها هو ما أودى بهذا المعنى العُدواني لمفردةِ "الذات" وأشاع السخرية في صيغةِ الجمعِ منها التي يجب الالتفات إلى أن بقاءها وحدها في الاستعمالِ بهذا المعنى، دونَ المفرد، لا يخلو من دلالةٍ اجتماعية سياسية أيضاً. فهو يبدو مُشِيراً إلى كونِ الذواتِ قد أصبحوا هم القطيع وأنّ الحاجةَ إلى تمييز الواحدِ منهم باعتبارهِ فَرْداً منفرداً بذاتِهِ قد زالت.

غير أنّ التمييز الذي يرفعُ بعض البشر فوقَ بعضٍ أمرٌ واسع الحيلةِ، عَصِيٌّ على الزوال. هكذا حلّت كلمة شخصيّة (وتُجْمَعُ على شخصيات) مَحَلَّ كلمة "ذات" ولكن للإشارةِ إلى فئاتٍ معظمها جديدٌ من ذوي الامتياز . "شخصية" اسم، مستحدث في لغتنا، بخلاف ذات، وأصلها الأجنبي صريح. ولعل هذا الأصلَ هو ما شفعَ لها حتّى الآن إذ أسعف في هَضمِ ما تنطوي عليه، هي أيضاً، من إقرارٍ بخُروجِ قلّةٍ من الأفراد من السوية العامّة للجماعة أو للبشر وباستحقاق كلّ منهم بالتالي أن يعتبر "شخصيةً" أي شخصاً مبالَغاً فيه بحيث يأبى الاختزال إلى أحدٍ سواه. الشخصيّة تُشير في أصل معناها البعيد، إلى القناع أو الدور، وهذا بخلافِ الذات التي تدلّ على الجوهر البشري. ويشير الانتقالُ من هذه إلى تلك إلى تغييرٍ اجتماعيٍّ يُلْتَفَتُ إليه في مبدَإِ منح الامتيازِ لفئةٍ من الناسِ وحَجْبِهِ عن سواها.

غيرَ أنه لَمّا كانَ الزمن المنقضي لا ينقضي كلّياً فإنّ كلمة من مصطلحه ترادفُ كلمة "ذات" وتشير إلى الفئةِ نفسها من البشر التي كانت تشيرُ إليها هذه الأخيرة قد بقيتْ مستعملةً في أيامنا بهذا المعنى نفسه: تلك هي كلمةُ "عَيْن" وتُجْمَعُ على "أعْيان"، وجمعها أكثر استعمالاً، في أيامِنا، من المفرد. فنقعُ عليهِ، مثَلاً، في عبارة مجلس الأعيان الذي لا نزال نجده صامداً بجانب مجلس النواب في بعضِ ممالكنا السعيدة. فالظاهر أنّ من شروط السعادة الاقتناعُ بأن فلاناً هو عينُه لا غيرُه أي بأنه ذو ذاتٍ ينفردُ بها عن الكثرة من الناس ويرتفع فوقها باعتباره، لا ذاتَ نفسِهِ وحسْبُ، بل ذاتَ الذين لا ذواتَ لهُمْ أيضاً.