الفرق بين المراجعتين لصفحة: «عبدالله بن المقفع»

اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
تمت إضافة المحتوى تم حذف المحتوى
لا ملخص تعديل
لا ملخص تعديل
سطر 19: سطر 19:
إن أعظم الأخطار التي [[خوف|يخافها]] الحاكم، هي أن يُبتلى بأديب، مثل [[ابن]] المقفع، هذا المفكر الذي جهر بآراء جريئة، هي في [[الحقيقة]] أهداف جميع الشرائع [[الدين]]ية، ومنها الدين [[الإسلام]]ي، الذي اتهم ابن المقفع بالمروق منه ومخالفته، فانتهى إلى أن يكون في عداد المفكرين الذين يقضون تنكيلاً وقتلاً وتمثيلاً؛ لا لشيء، إلا لأنهم استجابوا لما تدعو إليه هذه الشرائع ذاتها من الإيمان ب[[الإنسان]]، والانتصار لقضاياه الأساسية، وحقوقه المشروعة.
إن أعظم الأخطار التي [[خوف|يخافها]] الحاكم، هي أن يُبتلى بأديب، مثل [[ابن]] المقفع، هذا المفكر الذي جهر بآراء جريئة، هي في [[الحقيقة]] أهداف جميع الشرائع [[الدين]]ية، ومنها الدين [[الإسلام]]ي، الذي اتهم ابن المقفع بالمروق منه ومخالفته، فانتهى إلى أن يكون في عداد المفكرين الذين يقضون تنكيلاً وقتلاً وتمثيلاً؛ لا لشيء، إلا لأنهم استجابوا لما تدعو إليه هذه الشرائع ذاتها من الإيمان ب[[الإنسان]]، والانتصار لقضاياه الأساسية، وحقوقه المشروعة.


من دعائم الصياغة الفنية لكتاب [[كليلة ودمنة]]، جرَيان الأحداث في محيط الطبيعة الزاخر بظواهر ومشاهد تثير العجب والدهشة، لطرافتها وغرابتها، واختيار معظم ال[[p[شخصيات]] الصانعة لهذه الأحداث من [[الحيوانات|البهائم]] والطير، ويجوز لنا ألّا نكتفي بالتعليل الذي يذكره [[ابن]] المقفع في المقدمة في قوله إن مبعث هذا الاختيار تعميم الفائدة المرجوّة منه لتشمل المتلقّين بمختلف مستوياتهم الفكرية ومراحل أعمارهم، ولنا أن نرد اختياره لسببين: أحدهما أنه عمد إلى التعمية والرمز تحرزاً من انتقام الخليفة وأعوانه، لما يقصد إليه في [[الحقيقة]] من إصلاح اجتماعي، ومن إدانة [[السلطة]] السياسية، لما يعانيه ال[[مجتمع]] من آثار سلبية ناتجة من جورها واستبدادها وبطشها، و[[فساد]]ها الشامل. وهذا ما نسبه بالرمز، حيث يراد شيء يخشى عواقبه، ويرمز له بشيء آخر بعيد نوعاً ما من ما يراد [[حقيقة]].
من دعائم الصياغة الفنية لكتاب [[كليلة ودمنة]]، جرَيان الأحداث في محيط الطبيعة الزاخر بظواهر ومشاهد تثير العجب والدهشة، لطرافتها وغرابتها، واختيار معظم ال[[شخصيات]] الصانعة لهذه الأحداث من [[الحيوانات|البهائم]] والطير، ويجوز لنا ألّا نكتفي بالتعليل الذي يذكره [[ابن]] المقفع في المقدمة في قوله إن مبعث هذا الاختيار تعميم الفائدة المرجوّة منه لتشمل المتلقّين بمختلف مستوياتهم الفكرية ومراحل أعمارهم، ولنا أن نرد اختياره لسببين: أحدهما أنه عمد إلى التعمية والرمز تحرزاً من انتقام الخليفة وأعوانه، لما يقصد إليه في [[الحقيقة]] من إصلاح اجتماعي، ومن إدانة [[السلطة]] السياسية، لما يعانيه ال[[مجتمع]] من آثار سلبية ناتجة من جورها واستبدادها وبطشها، و[[فساد]]ها الشامل. وهذا ما نسبه بالرمز، حيث يراد شيء يخشى عواقبه، ويرمز له بشيء آخر بعيد نوعاً ما من ما يراد [[حقيقة]].


والسبب الآخر فني، فليس ببعيد أن يكون هذا الاختيار الموفق استجابة لمتطلبات [[أدبيات|أدبية]] وعاها الكاتب، مدركاً أن التعبير ا[[فنون|لفني]] عمّا هو فكري مطلب عسير جداً لا يمكن الوصول إليه إلا بشروط، قد يحققها هذا الشكل الفني الذي يستحوذ على ملكات المتلقي الوجدانية والشعورية جميعاً، ويستدعي بإلحاح مخيلته لتكون على الدوام حاضرة حضوراً فاعلاً في عملية التلقّي، حتى لا تدع للقوى العاقلة أن تنشط إلا بإشرافها وبوحيٍ منها. عندها تتبدل مقاييس [[فكرة|الفكر]] وقوة أبنيته، وتتقلب أحكامه من النقيض إلى النقيض، فما كان من قبل عقلاً، غدا لحظات التلقي وهماً وخيالاً. فثمة عوالم تحمل هذا الشكل الفني المبتكر على خلقها خلافاً لصورتها الأولى، وعلى أن ينوط بها خصائص ليست لها في العادة والطبيعة، إنه تغيير في المفاهيم والتصورات أحدثته معالم الطبيعة، مزدانة بأصباغ وألوان كفيلة بأن تحجب [[دماغ|العقل]]، أو على الأقل تحدّ كثيراً من نشاطه.
والسبب الآخر فني، فليس ببعيد أن يكون هذا الاختيار الموفق استجابة لمتطلبات [[أدبيات|أدبية]] وعاها الكاتب، مدركاً أن التعبير ا[[فنون|لفني]] عمّا هو فكري مطلب عسير جداً لا يمكن الوصول إليه إلا بشروط، قد يحققها هذا الشكل الفني الذي يستحوذ على ملكات المتلقي الوجدانية والشعورية جميعاً، ويستدعي بإلحاح مخيلته لتكون على الدوام حاضرة حضوراً فاعلاً في عملية التلقّي، حتى لا تدع للقوى العاقلة أن تنشط إلا بإشرافها وبوحيٍ منها. عندها تتبدل مقاييس [[فكرة|الفكر]] وقوة أبنيته، وتتقلب أحكامه من النقيض إلى النقيض، فما كان من قبل عقلاً، غدا لحظات التلقي وهماً وخيالاً. فثمة عوالم تحمل هذا الشكل الفني المبتكر على خلقها خلافاً لصورتها الأولى، وعلى أن ينوط بها خصائص ليست لها في العادة والطبيعة، إنه تغيير في المفاهيم والتصورات أحدثته معالم الطبيعة،ة بأصباغ وألوان كفيلة بأن تحجب [[دماغ|العقل]]، أو على الأقل تحدّ كثيراً من نشاطه.


يقول ابن المقفع إن العامة والأغرار، يكتفون بما يتبدّى في ظاهر الكتاب من اللهو والتسلية، تسجيةً لأوقات [[العدم|الفراغ]]، ويُقبل الأحداث على [[قراءة|قراءته]] مأخوذين بغرائب حكاياته، وأحداثه الجارية، في عوالم [[الحيوانات|الحيوان]].
يقول ابن المقفع إن العامة والأغرار، يكتفون بما يتبدّى في ظاهر الكتاب من اللهو والتسلية، تسجيةً لأوقات [[العدم|الفراغ]]، ويُقبل الأحداث على [[قراءة|قراءته]] مأخوذين بغرائب حكاياته، وأحداثه الجارية، في عوالم [[الحيوانات|الحيوان]].
سطر 27: سطر 27:
أي أن هؤلاء المتلقين يكتفون بما يتسرب إلى وجدانهم من ألوان الأحاسيس والمشاعر الغامضة، فلا يسعفهم الفهم بتدبر ما استبطن في أمثاله، وحكاياته وأحداثه، من أبعاد وموحيات، أو على الأقل من فرائد الحكم والعِبَر والدروس الاجتماعية و[[الأخلاق]]ية، فلا يعلق في وجدانهم من هذا كله، إلا ما يثار فيه من عواطف ومشاعر وانفعالات فطرية كامنة، مثل الشفقة والأسى، أو النغمة واللوم والاحتجاج، أو الرغبة بالفضائل والقيم النبيلة، واستقباح ما يخالفها من رذائل، وقيم سلبية كريهة؛ وذلك حينما يرون إلى ضحية مسكينة، وقعت فريسة لكائن قوي متجبّر، أو أودى بها [[جهل]]ها وطيشها، وقلة حيلتها، وتسرّعها في إمضاء أمورها من دون تبصر أو [[فكرة|تفكر]]، أو قادها الهلع والطــمع والغرور إلى حتفها، أو سبقت إلى لسانها، كلمة سوء كان فيها هلاكها.
أي أن هؤلاء المتلقين يكتفون بما يتسرب إلى وجدانهم من ألوان الأحاسيس والمشاعر الغامضة، فلا يسعفهم الفهم بتدبر ما استبطن في أمثاله، وحكاياته وأحداثه، من أبعاد وموحيات، أو على الأقل من فرائد الحكم والعِبَر والدروس الاجتماعية و[[الأخلاق]]ية، فلا يعلق في وجدانهم من هذا كله، إلا ما يثار فيه من عواطف ومشاعر وانفعالات فطرية كامنة، مثل الشفقة والأسى، أو النغمة واللوم والاحتجاج، أو الرغبة بالفضائل والقيم النبيلة، واستقباح ما يخالفها من رذائل، وقيم سلبية كريهة؛ وذلك حينما يرون إلى ضحية مسكينة، وقعت فريسة لكائن قوي متجبّر، أو أودى بها [[جهل]]ها وطيشها، وقلة حيلتها، وتسرّعها في إمضاء أمورها من دون تبصر أو [[فكرة|تفكر]]، أو قادها الهلع والطــمع والغرور إلى حتفها، أو سبقت إلى لسانها، كلمة سوء كان فيها هلاكها.


ابن المقفع يريد كتاب [[كليلة ودمنة]] للعامة، كتاب تهذيب، و[[تعليم]]، وإصلاح، كما يريده كتاباً فنياً أدبياً [[متعة|ممتعاً]]، ويضعه بين أيدي الحكماء، ليكون تذكرة لهم بالحكمة الخالدة، يغوصون في محيطها ما شاء لهم الغوص، وسلوى لقلوبهم تسري عنهم ما يعانونه في واقع حياتهم، من المفارقات الغريبة، والمفاسد والموبقات القاتلة، مثل طغيان [[السلطة]] واستبدادها، وظلم الأقوياء، وتفشّي [[الجهل]]، وانتشار ال[[فقر] والحرمان، والأوبئة، والأمراض، وإعراض الناس في معظمهم عمّا يُدعون إليه من مكارم [[الأخلاق]]، وفضائل القيم والمعارف والحكم، ومن التحلّي بالصبر والشجاعة، والجرأة والتمرّد والتصدي.
ابن المقفع يريد كتاب [[كليلة ودمنة]] للعامة، كتاب تهذيب، و[[تعليم]]، وإصلاح، كما يريده كتاباً فنياً أدبياً [[متعة|ممتعاً]]، ويضعه بين أيدي الحكماء، ليكون تذكرة لهم بالحكمة الخالدة، يغوصون في محيطها ما شاء لهم الغوص، وسلوى لقلوبهم تسري عنهم ما يعانونه في واقع حياتهم، من المفارقات الغريبة، والمفاسد والموبقات القاتلة، مثل طغيان [[السلطة]] واستبدادها، وظلم الأقوياء، وتفشّي [[الجهل]]، وانتشار ال[[فقر][ والحرمان، والأوبئة، والأمراض، وإعراض الناس في معظمهم عمّا يُدعون إليه من مكارم [[الأخلاق]]، وفضائل القيم والمعارف والحكم، ومن التحلّي بالصبر والشجاعة، والجرأة والتمرّد والتصدي.


إن عظمة ابن المقفع تكمن في وعيه المتقدم لدور الأديب الطليعي الإصلاحي، والتزامه القضايا الاجتماعية و[[الأخلاق]]ية، واعتبار [[الإنسان]] قيمة كبرى، لا اعتبار لأي نشاط بشري يتجاوز حقوقه، أو يجافي مصالحه المشروعة، ولا صلاح للدنيا إلا بصلاح ظروف ال[[حياة]] من حوله، فابن المقفع: «أديب كبير… كان لفكره ولأدبه فعلهما الكبير في [[مجتمع]] العصر العباسي الأول؛ لأن المسألة الاجتماعية السياسية، تسرّبت إلى فكره وأدبه خلال العلاقة نفسها، التي لم يستطع هذا الكاتب الرائد أن يفلت من حضورها في كتاباته الإبداعية، ولم يستطع كذلك أن يخبئها وراء الرمز في [[كليلة ودمنة]]، ولا وراء الكلام النظري والتجريدي في كتابيه: الأدب الكبير والأدب الصغير .
إن عظمة ابن المقفع تكمن في وعيه المتقدم لدور الأديب الطليعي الإصلاحي، والتزامه القضايا الاجتماعية و[[الأخلاق]]ية، واعتبار [[الإنسان]] قيمة كبرى، لا اعتبار لأي نشاط بشري يتجاوز حقوقه، أو يجافي مصالحه المشروعة، ولا صلاح للدنيا إلا بصلاح ظروف ال[[حياة]] من حوله، فابن المقفع: «أديب كبير… كان لفكره ولأدبه فعلهما الكبير في [[مجتمع]] العصر العباسي الأول؛ لأن المسألة الاجتماعية السياسية، تسرّبت إلى فكره وأدبه خلال العلاقة نفسها، التي لم يستطع هذا الكاتب الرائد أن يفلت من حضورها في كتاباته الإبداعية، ولم يستطع كذلك أن يخبئها وراء الرمز في [[كليلة ودمنة]]، ولا وراء الكلام النظري والتجريدي في كتابيه: الأدب الكبير والأدب الصغير .