الفرق بين المراجعتين لصفحة: «عبدالله بن المقفع»

أُضيف 160 بايت ،  قبل شهرين
ط
لا ملخص تعديل
 
(3 مراجعات متوسطة بواسطة مستخدمين اثنين آخرين غير معروضة)
سطر 10:
 
المدهش في الأمر أن ابن المقفع أنجز هذه الأعمال الكبيرة حتى دون تمويل من [[الدولة]]، إذ المعروف أن [[الخلافة الإسلامية|الخلفاء العباسيين]] كانوا يمولون عمليات ترجمة الكتب من اللغة [[اليونان]]ية إلى [[العربية]] فقط، أما ترجمة الكتب الفارسية وغيرها، فتمت بمبادرة من الكتاب الفرس أنفسهم، أو بأمر من الخلفاء، ولكن بدون تمويل. وقد ذكر ابن النديم [[اسم|أسماء]] أكثر من عشرين كاتبا فارسي الأصل كانوا من فصحاء [[اللغة العربية]]، تركوا بصمة واضحة في الحضارة الإسلامية، بل وأسهموا في رفد حضارة [[الإسلام]] النامية بكم كبير من درر ونفائس تراث الإمبراطورية الساسانية وحضارة فارس.
==تهمة الزندقة==
 
إن من يقدم مثل هذه الأعمال الجليلة إلى أمة [[الإسلام]]، لا يمكن أن يكون قد قصد الإساءة إليها أو إلى [[الدين]] كما يدعي بعض المتطرفين ال[[جهل]]ة، ولا يمكن أن يكون قد دخل إلى [[الإسلام]] لغاية أو هدف تخريبي لكي يتهموه بالعداء للإسلام وبالزندقة . إن هؤلاء الطاعنين والمشككين قبل غيرهم كانوا يعرفون [[حقيقة]] سرائر هذا الأديب و[[العالم]] الكبير، ولكن حقدهم وتطرفهم، ورفضهم لل[[علوم]] الحديثة، دفعهم إلى اختلاق [[كذاب|الأكاذيب]] للإساءة إلى [[تاريخ]] هؤلاء العلماء الأعلام ؛ ومنهم [[ابن]] المقفع صاحب الفضل الكبير على حضارتنا، ولذا تعمدوا تشويه سيرته، والطعن في [[صحة]] إسلامه؛ بما نسبوه إليه من أكاذيب ودجل .
 
سطر 18:
 
إن أعظم الأخطار التي [[خوف|يخافها]] الحاكم، هي أن يُبتلى بأديب، مثل [[ابن]] المقفع، هذا المفكر الذي جهر بآراء جريئة، هي في [[الحقيقة]] أهداف جميع الشرائع [[الدين]]ية، ومنها الدين [[الإسلام]]ي، الذي اتهم ابن المقفع بالمروق منه ومخالفته، فانتهى إلى أن يكون في عداد المفكرين الذين يقضون تنكيلاً وقتلاً وتمثيلاً؛ لا لشيء، إلا لأنهم استجابوا لما تدعو إليه هذه الشرائع ذاتها من الإيمان ب[[الإنسان]]، والانتصار لقضاياه الأساسية، وحقوقه المشروعة.
==الرمزية في كليلة ودمنة==
من دعائم الصياغة الفنية لكتاب [[كليلة ودمنة]]، جرَيان الأحداث في محيط الطبيعة الزاخر بظواهر ومشاهد تثير العجب والدهشة، لطرافتها وغرابتها، واختيار معظم ال[[p[شخصيات]] الصانعة لهذه الأحداث من [[الحيوانات|البهائم]] والطير، ويجوز لنا ألّا نكتفي بالتعليل الذي يذكره [[ابن]] المقفع في المقدمة في قوله إن مبعث هذا الاختيار تعميم الفائدة المرجوّة منه لتشمل المتلقّين بمختلف مستوياتهم الفكرية ومراحل أعمارهم، ولنا أن نرد اختياره لسببين: أحدهما أنه عمد إلى التعمية والرمز تحرزاً من انتقام الخليفة وأعوانه، لما يقصد إليه في [[الحقيقة]] من إصلاح اجتماعي، ومن إدانة [[السلطة]] السياسية، لما يعانيه ال[[مجتمع]] من آثار سلبية ناتجة من جورها واستبدادها وبطشها، و[[فساد]]ها الشامل. وهذا ما نسبه بالرمز، حيث يراد شيء يخشى عواقبه، ويرمز له بشيء آخر بعيد نوعاً ما من ما يراد [[حقيقة]].
 
والسبب الآخر فني، فليس ببعيد أن يكون هذا الاختيار الموفق استجابة لمتطلبات [[أدبيات|أدبية]] وعاها الكاتب، مدركاً أن التعبير ا[[فنون|لفني]] عمّا هو فكري مطلب عسير جداً لا يمكن الوصول إليه إلا بشروط، قد يحققها هذا الشكل الفني الذي يستحوذ على ملكات المتلقي الوجدانية والشعورية جميعاً، ويستدعي بإلحاح مخيلته لتكون على الدوام حاضرة حضوراً فاعلاً في عملية التلقّي، حتى لا تدع للقوى العاقلة أن تنشط إلا بإشرافها وبوحيٍ منها. عندها تتبدل مقاييس [[فكرة|الفكر]] وقوة أبنيته، وتتقلب أحكامه من النقيض إلى النقيض، فما كان من قبل عقلاً، غدا لحظات التلقي وهماً وخيالاً. فثمة عوالم تحمل هذا الشكل الفني المبتكر على خلقها خلافاً لصورتها الأولى، وعلى أن ينوط بها خصائص ليست لها في العادة والطبيعة، إنه تغيير في المفاهيم والتصورات أحدثته معالم الطبيعة، مزدانةالطبيعة،ة بأصباغ وألوان كفيلة بأن تحجب [[دماغ|العقل]]، أو على الأقل تحدّ كثيراً من نشاطه.
من دعائم الصياغة الفنية لكتاب [[كليلة ودمنة]]، جرَيان الأحداث في محيط الطبيعة الزاخر بظواهر ومشاهد تثير العجب والدهشة، لطرافتها وغرابتها، واختيار معظم ال[[p[شخصيات]] الصانعة لهذه الأحداث من [[الحيوانات|البهائم]] والطير، ويجوز لنا ألّا نكتفي بالتعليل الذي يذكره [[ابن]] المقفع في المقدمة في قوله إن مبعث هذا الاختيار تعميم الفائدة المرجوّة منه لتشمل المتلقّين بمختلف مستوياتهم الفكرية ومراحل أعمارهم، ولنا أن نرد اختياره لسببين: أحدهما أنه عمد إلى التعمية والرمز تحرزاً من انتقام الخليفة وأعوانه، لما يقصد إليه في [[الحقيقة]] من إصلاح اجتماعي، ومن إدانة [[السلطة]] السياسية، لما يعانيه ال[[مجتمع]] من آثار سلبية ناتجة من جورها واستبدادها وبطشها، و[[فساد]]ها الشامل. وهذا ما نسبه بالرمز، حيث يراد شيء يخشى عواقبه، ويرمز له بشيء آخر بعيد نوعاً ما من ما يراد [[حقيقة]].
 
والسبب الآخر فني، فليس ببعيد أن يكون هذا الاختيار الموفق استجابة لمتطلبات [[أدبيات|أدبية]] وعاها الكاتب، مدركاً أن التعبير ا[[فنون|لفني]] عمّا هو فكري مطلب عسير جداً لا يمكن الوصول إليه إلا بشروط، قد يحققها هذا الشكل الفني الذي يستحوذ على ملكات المتلقي الوجدانية والشعورية جميعاً، ويستدعي بإلحاح مخيلته لتكون على الدوام حاضرة حضوراً فاعلاً في عملية التلقّي، حتى لا تدع للقوى العاقلة أن تنشط إلا بإشرافها وبوحيٍ منها. عندها تتبدل مقاييس [[فكرة|الفكر]] وقوة أبنيته، وتتقلب أحكامه من النقيض إلى النقيض، فما كان من قبل عقلاً، غدا لحظات التلقي وهماً وخيالاً. فثمة عوالم تحمل هذا الشكل الفني المبتكر على خلقها خلافاً لصورتها الأولى، وعلى أن ينوط بها خصائص ليست لها في العادة والطبيعة، إنه تغيير في المفاهيم والتصورات أحدثته معالم الطبيعة، مزدانة بأصباغ وألوان كفيلة بأن تحجب [[دماغ|العقل]]، أو على الأقل تحدّ كثيراً من نشاطه.
 
يقول ابن المقفع إن العامة والأغرار، يكتفون بما يتبدّى في ظاهر الكتاب من اللهو والتسلية، تسجيةً لأوقات [[العدم|الفراغ]]، ويُقبل الأحداث على [[قراءة|قراءته]] مأخوذين بغرائب حكاياته، وأحداثه الجارية، في عوالم [[الحيوانات|الحيوان]].
سطر 27:
أي أن هؤلاء المتلقين يكتفون بما يتسرب إلى وجدانهم من ألوان الأحاسيس والمشاعر الغامضة، فلا يسعفهم الفهم بتدبر ما استبطن في أمثاله، وحكاياته وأحداثه، من أبعاد وموحيات، أو على الأقل من فرائد الحكم والعِبَر والدروس الاجتماعية و[[الأخلاق]]ية، فلا يعلق في وجدانهم من هذا كله، إلا ما يثار فيه من عواطف ومشاعر وانفعالات فطرية كامنة، مثل الشفقة والأسى، أو النغمة واللوم والاحتجاج، أو الرغبة بالفضائل والقيم النبيلة، واستقباح ما يخالفها من رذائل، وقيم سلبية كريهة؛ وذلك حينما يرون إلى ضحية مسكينة، وقعت فريسة لكائن قوي متجبّر، أو أودى بها [[جهل]]ها وطيشها، وقلة حيلتها، وتسرّعها في إمضاء أمورها من دون تبصر أو [[فكرة|تفكر]]، أو قادها الهلع والطــمع والغرور إلى حتفها، أو سبقت إلى لسانها، كلمة سوء كان فيها هلاكها.
 
ابن المقفع يريد كتاب [[كليلة ودمنة]] للعامة، كتاب تهذيب، و[[تعليم]]، وإصلاح، كما يريده كتاباً فنياً أدبياً [[متعة|ممتعاً]]، ويضعه بين أيدي الحكماء، ليكون تذكرة لهم بالحكمة الخالدة، يغوصون في محيطها ما شاء لهم الغوص، وسلوى لقلوبهم تسري عنهم ما يعانونه في واقع حياتهم، من المفارقات الغريبة، والمفاسد والموبقات القاتلة، مثل طغيان [[السلطة]] واستبدادها، وظلم الأقوياء، وتفشّي [[الجهل]]، وانتشار ال[[فقر]] والحرمان، والأوبئة، والأمراض، وإعراض الناس في معظمهم عمّا يُدعون إليه من مكارم [[الأخلاق]]، وفضائل القيم والمعارف والحكم، ومن التحلّي بالصبر والشجاعة، والجرأة والتمرّد والتصدي.
==الإصلاح الشامل بادئا بالسلطان==
إن عظمة ابن المقفع تكمن في وعيه المتقدم لدور الأديب الطليعي الإصلاحي، والتزامه القضايا الاجتماعية و[[الأخلاق]]ية، واعتبار [[الإنسان]] قيمة كبرى، لا اعتبار لأي نشاط بشري يتجاوز حقوقه، أو يجافي مصالحه المشروعة، ولا صلاح للدنيا إلا بصلاح ظروف ال[[حياة]] من حوله، فابن المقفع: «أديب كبير… كان لفكره ولأدبه فعلهما الكبير في [[مجتمع]] العصر العباسي الأول؛ لأن المسألة الاجتماعية السياسية، تسرّبت إلى فكره وأدبه خلال العلاقة نفسها، التي لم يستطع هذا الكاتب الرائد أن يفلت من حضورها في كتاباته الإبداعية، ولم يستطع كذلك أن يخبئها وراء الرمز في [[كليلة ودمنة]]، ولا وراء الكلام النظري والتجريدي في كتابيه: الأدب الكبير والأدب الصغير .
 
كيف تظن أن يقول [[ابن]] المقفع كلمته، ويدلي برأيه في الحكم، والقضاء، وشؤون [[الدولة]]، وفي العلاقة التي يجب أن تكون بين الراعي والرعية، وتشكل الحكم، وكيف السبيل للإفصاح عن ذلك ؟ وكيف يصل صوته الداعي إلى الخير والفضيلة، والعمل، وبذل الجهد، والاعتماد على النفس، والتسلح بالوعي، والصبر، والروية، إلى الناس الذين أعجزهم ال[[جهل]]، وصرفتهم الحاجة عن الإصغاء والفهم، إلا أن يعمد إلى التقية، فيلجأ إلى التلميح بمقاصده، والتلويح بنقده واحتجاجه، مراعياً في ذلك ميلهم الفطري إلى الخرافة والأسطورة، والإيمان بكل غريب عجيب من مثل [[حيوانات]] تتكلم، وتحاور، وتنفعل، وتحيك المؤامرات والدسائس، وتتصارع وتتفق، ويكون منها المهزوم والمنتصر، القاتل والمقتول، والضحية؟
إن عظمة ابن المقفع تكمن في وعيه المتقدم لدور الأديب الطليعي الإصلاحي، والتزامه القضايا الاجتماعية و[[الأخلاق]]ية، واعتبار [[الإنسان]] قيمة كبرى، لا اعتبار لأي نشاط بشري يتجاوز حقوقه، أو يجافي مصالحه المشروعة، ولا صلاح للدنيا إلا بصلاح ظروف ال[[حياة]] من حوله، فابن المقفع: «أديب كبير… كان لفكره ولأدبه فعلهما الكبير في [[مجتمع]] العصر العباسي الأول؛ لأن المسألة الاجتماعية السياسية، تسرّبت إلى فكره وأدبه خلال العلاقة نفسها، التي لم يستطع هذا الكاتب الرائد أن يفلت من حضورها في كتاباته الإبداعية، ولم يستطع كذلك أن يخبئها وراء الرمز في [[كليلة ودمنة]]، ولا وراء الكلام النظري والتجريدي في كتابيه: الأدب الكبير والأدب الصغير .
 
كيف تظن أن يقول [[ابن]] المقفع كلمته، ويدلي برأيه في الحكم، والقضاء، وشؤون [[الدولة]]، وفي العلاقة التي يجب أن تكون بين الراعي والرعية، وتشكل الحكم، وكيف السبيل للإفصاح عن ذلك ؟ وكيف يصل صوته الداعي إلى الخير والفضيلة، والعمل، وبذل الجهد، والاعتماد على النفس، والتسلح بالوعي، والصبر، والروية، إلى الناس الذين أعجزهم ال[[جهل]]، وصرفتهم الحاجة عن الإصغاء والفهم، إلا أن يعمد إلى التقية، فيلجأ إلى التلميح بمقاصده، والتلويح بنقده واحتجاجه، مراعياً في ذلك ميلهم الفطري إلى الخرافة والأسطورة، والإيمان بكل غريب عجيب من مثل [[حيوانات]] تتكلم، وتحاور، وتنفعل، وتحيك المؤامرات والدسائس، وتتصارع وتتفق، ويكون منها المهزوم والمنتصر، القاتل والمقتول، والضحية؟ وهل يمكن لابن المقفع أن يتوجه بالخطاب إلى الحاكم نفسه، ويكون في مأمن من أذاه وبطـشه، إلا إذا اعترف له بالسمو على سائر [[الإنسان|البشر]]، عامداً إلى الرمز، والكناية في التعبير عن آرائه وأفكاره؟ هكذا، فقد أجاد [[ابن]] المقفع في اختيار أسلوب الخطاب الرامز، فصاغه بقالب تصويري مؤثر قوامه الحكايات والأمثال النابضة بال[[حوار]] المثير، والفعل المتحرك، والحركة الدائبة المشوّقة، ما يجعل منها مسرحيات تقوم على مقدمة تضع المتلقّي في مكان محدد، وتعرض له شخصية أو شخصيات رئيسية، لا تلبث أن تواجه مشكلة تنذر بالخطر، أو تقع في مأزق، حيث العقدة التي يتطلب حلها فعلاً واقعياً، يجري عرضه مفصّلاً من خلال أحداث جزئية، تجري بصورة عفوية منطقية، وتتدرج بيُسْر وسهولة، إلى حلٍ [[أخلاق]]ي يُرضي نزوع المصلح الحكيم إلى انتصار الحق على الباطل، والخير على الشر، ومنظومة القيم ال[[تاريخ]]ية الإيجابية النبيلة على ما يعارضها من القيم السلبية.
 
دعا ابن المقفع في رسالته ، إلى الإصلاح الشامل بادئاً بالرأس، أي السلطان، ومن ثم صحابة السلطان أو بطانته، وال[[مجتمع]]، والقضاء والجيش، و[[الشعب]]. كل ذلك في أسلوب جريء، متمرد، راوح ما بين تلميح وتصريح، مما أثار عليه حفيظة القائمين بالأمر، وبخاصة لما طالب ابن المقفع بإصلاح القضاء، كان كمن يريد تكبيل يدي الخليفة، ومنعه من عقاب من يشاء، وقتل من يشاء دون محاكمة أو سؤال. المؤسف والمحزن أن هذا الذي علمه أكثر من عقله لم يشفع له لا العلم ولا [[دماغ|العقل]] حينما غضب عليه الحاكم، بل كان علمه وعقله سبب [[موت]]ه، وقد روى ابن حجر قصة مقتله بقوله:
السطر 39 ⟵ 41:
 
[[تصنيف:أدبيات]]
[[تصنيف:صفحات للتحقق]]