سائق

من بيضيبيديا، الموسوعة الفارغة
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

السائق المخمور الذي كان يقود حافلة متهالكة غير م وجهة نظري نحو الحياة الى الأبد. فسرعان ما أن غادرنا المجال الحضري وفتنا المدينة، حتى نسي السائق الركاب الذين معه، ولم يراع أحدا. إذ جعل فضاء الحافلة يختنق بصدى أسطوانة سي دي لفرقة غجر يؤدي أفرادها أهازيج رعوية عن الخذلان والحب الخاسر. كان السائق في غاية الانسجام وهو يردد المواويل الغجرية، لم ينتبه كيف حول مقود الحافلة إلى بندير، فأشبعه ضربا بكفيه الغليضتين، حتى اعتقدت لحظة أنه سينكسر بين يديه. لما وصلنا الى حافة خطيرة، تملكنا الخوف الشديد، أما مغنية الفرقة على إسطوانة السي دي فصدحت بصوت جرّحت السجائر المهربة والنبيذ الرخيص أوتاره. وغنت عن استعدادها لفداء حبيبها بالروح، رغم غدره وخذلانه وتخليه عنها:

  • أفديك بعمري..
  • وبروحي.. يا من قسا وغدر
  • حبي لا يفرق بينك وبين القدر
  • إن لم تكن لي فلا طلعت علي شمس نهار الغد
  • ولا بزغ في ليالي القمر
  • غدرك من شر البشر
  • حاشا لله أن يكون من نبل الغجر.

عم الخوف والفزع ركاب الحافلة، إلا السائق الذي كان يردد مع الغجرية لازمة الموت: (أموووووووت أنا أمووووت...وتعيش أنت لي يا عمري يا كل العمر...). بكى السائق وانتحب من شدة الوله والانفعال والسكر، حتى تخلى عن المقود، فسارت الحافلة لوحدها كحمارة معتادة على طريقها اليومي، نازلة بنا إلى المنحدر الخطير.حينها بكينا جميعا، نحن الركاب، من شدة الخوف والهلع على أرواحنا وأعمارنا التي نرى أنها ستفنى أمام أعيننا نتيجة تهور سائق أحمق. لقد جابهنا الموت حقا.

وحدها امرأة بدينة كانت طوال الرحلة تتفاخر بقلادة وأساور من ذهب على صدرها الواسع وبالمعصمين، ظلت تتابع بعينيها الناعستين، وقد أثقلهما كحل ذائب، ما يحدث أمامها بهدوء، كأنها تستمتع بمشهد فرجوي. لما علا البكاء والصراخ واختلط بالموال القاتل، شاهدت المرأة البدينة، التي كانت تجلس بالقرب مني، تتحرك وتتجه نحو مقدمة الحافلة، ثم تابعتها وهي تصفع السائق بقوة أعادته إلى صوابه فأمسك جيدا بالمقود، ليقود الحافلة بنجاح، مجنبا إياها السقوط بنا في أخطر منحدر. ثم تابعها الجميع ورأى كيف قامت بترتيب أساور يمناها وعادت تتمايل إلى مكانها بالوراء، وهي تغمغم حانقة تعوج فمها بكلمات غامضة، سأفهم بعدها أنها تصحح للسائق لازمة أغنية "السي دي"، التي أخطأ المخمور في النطق السليم لعباراتها، أو على الأصح تعمد تحويرها لتعني عكس ما يراد. حيث أصبحت اللازمة: (تموووتين أنت وأعيش أنا بعدك العمر كل العمر..).

عند الوصول لم نصدق أننا وصلنا بسلام، وفي لحظة طائرة تشتت الركاب كل في اتجاه، تركوا المحطة وذابوا ذوبان الماء في الرمل. أما أنا فتأخرت قليلا بسبب انشغالي بحقيبتي التي وجدتها من دون قفل، لأشاهد المرأة البدينة يتنافس ردفاها الثقيلان على إمالة الطريق، وهي تمسك بذراع السائق المجنون. ورأيتهما يدخلان معا محل بيع الخمور . كانت الساعة قد أزفت، وقد وصلا في الوقت الميت. ساعة إقفال دكاكين بيع الخمور، في الثامنة ليلا. جلست في المقهى المجاور للمحطة كي أستعيد وعيي، هناك صادفت مساعد السائق، واخبرني أن المرأة شيخة تغني وترقص في الحفلات والأعراس بالقرى البعيدة فقط، إذ أن عشيقها السائق الشاب يمنعها من العمل في قريته والمناطق القريبة. وأن من أنقذتنا بصفعة، هي صاحبة الصوت المجروح الذي سمعناه مسجلا على أسطوانة "سي دي" في الحافلة.

في يوم انعقاد السوق الأسبوعي للقرية اقتنيت أسطوانة الحافلة، وحمدت الله أن المرأة صفعت صاحبها قبل وصول الأغنية إلى المقطع الذي تقول كلماته:

  • أنتَ الحافة يا عمري
  • أنتَ النهاية ياروحي
  • أنتَ الروح والعمر

لكني لما أعدت الاستماع ل "السي دي" أكثر من مرة، لم أجد أي نشاز في صوت الغجرية البدينة، بل وجدته صوتا صافيا وجميلا وعامرا بالحزن. من يومها أحببت أغاني الشيخات والسجائر المهربة والروج الرخيص، ونسيت أخطار الطرقات.