الفرق بين المراجعتين لصفحة: «بيروت»

أُزيل 225 بايت ،  قبل 3 سنوات
لا يوجد ملخص تحرير
(أنشأ الصفحة ب'300px|left| '''بيروت''' مدينة الغرباء , لا تمتلك هذه المدينة شيئاً من أسرار جمال...')
 
لا ملخص تعديل
سطر 2:
'''بيروت''' مدينة الغرباء , لا تمتلك هذه المدينة شيئاً من أسرار جمال ال[[مدن]]: هي ليست طرابلس الشام المملوكية بأحواشها [[السحر|الساحرة]]، وإنما كانت في أوائل القرن التاسع عشر مجرد بلدة مهملة وصغيرة محاطة بسور مربع. كانت مدينة مربعة وضيقة، وسكانها صيادون وفلاحون. بيروت مدينة نسيت معنى [[اسم]]ها، وطمرت نفسها على هامش الساحل [[سوريا|السوري]]. ومنذ الفتح ال[[مصر]]ي انقلبت المدينة رأساً على عقب، فتوسعت في جميع الاتجاهات، وصارت ميناء جعل منه [[فرنسا|الفرنسيون]] ميناء الداخل كله.نَمت بيروت وصارت ولاية [[الدولة العثمانية|عثمانية]]، ومنذ بداية أزمنة النكبات في أواسط القرن العشرين، بدأت تستقبل الهاربين إليها. كبرت بيروت لأنها كانت مدينة اللاجئين. هذا هو سرها. خلال الحرب الأهلية الأولى في سنة 1860، استقبلت اللاجئين الهاربين من هول المذبحة في جبل لبنان، ثم استقبلت الهاربين من مذبحة [[دمشق]]. وجد اللاجئون إليها مدينتهم، لأنها من دونهم ما كان لها أن تصير مدينة. وتعاقبت عليها موجات [[لجوء سياسي|اللاجئين]]:الهجرة الأرمنية بعد المذبحة الأرمنية الكبرى , الهجرة ال[[فلسطين]]ية بعد التطهير العرقي الوحشي في فلسطين , هجرة فلاحي الجنوب اللبناني في الخمسينيات والستينيات، حيث نشأ حزام [[الفقر]] , هجرة الرأسماليين السوريين والمصريين و[[العراق]]يين هرباً من قرارات التأميم , هجرة [[المثقف]]ين [[العرب]] من بلادهم بحثاً عن [[حرية]] وجدوها في المدينة , هجرة [[صحفي|الصحافيين]] العرب هرباً من ال[[قمع]] , هجرات لا تنتهي وصلت إلى ذروتها في الهجرة [[سوريا|السورية]] الكبرى التي صنعتها مقتلة لا سابق لها، ارتكبها النظام ضد [[شعب]] قرر أن يدافع عن حقه في الحرية وال[[كرامة]] الإنسانية.
 
[[اسم]] بيروت يعني شجرة صنوبر. فالصنوبر كان يزنّر المدينة ويعطيها رائحة البخور: غابات من أشجار الصنوبر تمتد إلى بحر تمخره سفن مصنوعة من خشب الصنوبر. لكن حبة الصنوبر التي صنع منها أهل بيروت مائدة لتنكيه طعامهم، ومادة لصناعة حلوياتهم، لا تصلح كاستعارة، أو هكذا افترض الشعراء. فال[[تفاح]] يحمل في داخله غواية الخطيئة الأولى، بحسب الأسطورة [[التوراة|التوراتية]]، والأرز هو الشجر الذي زرعه [[الله]]، بحسب مزامير داود، أمّا الصنوبرة فشجرة ظلالها تكاد لا تقي من أشعة الشمس، وبخورها ومذاق ثمرتها الصغيرة يحتاجان إلى تدريب للحواس كي يُكْتَنَها مدينة الجميع، أي مدينة لا أحد. فتنة بيروت هي بابها المفتوح على إيقاع الموج. فالبيارتة عُرفوا بشغفهم بالموسيقى، كأن الموسيقى التي يعزفها الناس هي صدى الموج. هجرات لم تتوقف صنعت من بيروت مدينة الغربة الأليفة. مدينة الغرباء الذين حولوا غربتهم إلى [[وطن]] للإبداع والتجديد والجرأة. [[الشعر]] العربي الحديث بدأ في [[العراق]]، لكنه وجد في بيروت مجلته التي أطلق عليها مؤسساها السوريان يوسف الخال وأدونيس [[اسم]] "مجلة شعر". والحداثة الأدبية وجدت في بيروت مجلتها التي أسسها سهيل إدريس، البيروتي العريق، جاعلاً من "الآداب" مجلة [[العرب]]. النهضة المصرفية بدأت مع صيرفيّ مقدسي صنع أهم إمبراطورية مصرفية في المنطقة اسمه يوسف بيدس. حتى نظرية لبنان، الجبل والبحر وجمهورية التجار، صاغها [[العراق]]ي الأشوري ميشال شيحا. كل شيء في بيروت صنعه بيروتيون، أكانوا لبنانيين أم غير لبنانيين، قادمون من ال[[مدن]] أو الأرياف. لعمارات الشاهقة التي صنعت طعم الأسمنت، بنتها أيدٍ عاملة سورية. حتى الشعوذة و[[السحر]] نشآ على يدَي الدكتور داهش، و[[اسم]]ه سليم العشي، ال[[فلسطين]]ي السرياني القادم من بيت لحم. الرجل جنّن بيروت، وأوصل رئيس جمهورية الاستقلال بشارة الخوري إلى الانهيار ال[[عصب]]ي الذي كاد يدفع به إلى الاستقالة.
 
فندق السان جورج بنته عبقرية أنطون تابت المعماري اللبناني القادم من بحمدون، والذي أسس مجلة "الطريق"، التي كانت صوت الطليعة اليسارية اللبنانية و[[العربية]]. بيروت مدينة الجامعات والوعي الجديد والحركات [[ثورة|الثورية]]، ففيها بدأ الفكر القومي العربي مع قسطنطين زريق الذي صكّ كلمة نكبة التي صارت العنوان الخاص ب[[فلسطين]] في اللغات كافة. مدينة رئيف خوري وعمر فاخوري والأخطل الصغير وأمين نخلة والياس أبي شبكة ويوسف إبراهيم يزبك. مدينة غسان كنفاني ورجال في الشمس. مدينة الصحف التي كان [[جمال عبد الناصر]] يصرّ على قراءتها مع قهوة الصباح. مدينة كامل مروة ومدينة قاتله أيضاً. مدينة سمير قصير التي انكتبت بحبر عشق هذا الفلسطيني – السوري – اللبناني للحرية.
هجرات لم تتوقف صنعت من بيروت مدينة الغربة الأليفة. مدينة الغرباء الذين حولوا غربتهم إلى [[وطن]] للإبداع والتجديد والجرأة. [[الشعر]] العربي الحديث بدأ في [[العراق]]، لكنه وجد في بيروت مجلته التي أطلق عليها مؤسساها السوريان يوسف الخال وأدونيس [[اسم]] "مجلة شعر". والحداثة الأدبية وجدت في بيروت مجلتها التي أسسها سهيل إدريس، البيروتي العريق، جاعلاً من "الآداب" مجلة [[العرب]]. النهضة المصرفية بدأت مع صيرفيّ مقدسي صنع أهم إمبراطورية مصرفية في المنطقة اسمه يوسف بيدس. حتى نظرية لبنان، الجبل والبحر وجمهورية التجار، صاغها [[العراق]]ي الأشوري ميشال شيحا. كل شيء في بيروت صنعه بيروتيون، أكانوا لبنانيين أم غير لبنانيين، قادمون من ال[[مدن]] أو الأرياف. لعمارات الشاهقة التي صنعت طعم الأسمنت، بنتها أيدٍ عاملة سورية. حتى الشعوذة و[[السحر]] نشآ على يدَي الدكتور داهش، و[[اسم]]ه سليم العشي، ال[[فلسطين]]ي السرياني القادم من بيت لحم. الرجل جنّن بيروت، وأوصل رئيس جمهورية الاستقلال بشارة الخوري إلى الانهيار ال[[عصب]]ي الذي كاد يدفع به إلى الاستقالة.
 
من الصعب فهم علاقة بيروت ب[[دولة]] [[لبنان]] الكبير. الجنرال غورو أعلن في الأول من سبتمبر 1920 تأسيس دولة صغيرة بصفتها مشروعاً لتكبير متصرفية جبل لبنان. ولاية بيروت العثمانية التي كانت المتصرفية الصغيرة التي أسسها القناصل [[أوروبا|الأوروبيون]] في سنة 1864 تقع على حدودها، وجدت نفسها فجأة عاصمة لبلد لم تختر الانتماء إليه. دولة [[لبنان]] الكبير نشأت على أنقاض خرابين: مجاعة كبرى أودت بثلث سكان لبنان، وانهيار المشروع الاستقلالي مع هزيمة المملكة الفيصلية أمام الجيوش الفرنسية على تخوم [[دمشق]]. فجأة تحولت بيروت من عاصمة لولاية [[الدولة العثمانية|عثمانية]] أنشئت في سنة 1888، وضمت ألوية بيروت وعكا وطرابلس الشام واللاذقية ونابلس، والتي كانت مساحتها ثلاثين ألفاً وخمسمئة كيلومتر مربع، إلى عاصمة لبلد صغير [[اسم]]ه لبنان الكبير!
فندق السان جورج بنته عبقرية أنطون تابت المعماري اللبناني القادم من بحمدون، والذي أسس مجلة "الطريق"، التي كانت صوت الطليعة اليسارية اللبنانية و[[العربية]]. بيروت مدينة الجامعات والوعي الجديد والحركات [[ثورة|الثورية]]، ففيها بدأ الفكر القومي العربي مع قسطنطين زريق الذي صكّ كلمة نكبة التي صارت العنوان الخاص ب[[فلسطين]] في اللغات كافة. مدينة رئيف خوري وعمر فاخوري والأخطل الصغير وأمين نخلة والياس أبي شبكة ويوسف إبراهيم يزبك. مدينة غسان كنفاني ورجال في الشمس. مدينة الصحف التي كان [[جمال عبد الناصر]] يصرّ على قراءتها مع قهوة الصباح. مدينة كامل مروة ومدينة قاتله أيضاً. مدينة سمير قصير التي انكتبت بحبر عشق هذا الفلسطيني – السوري – اللبناني للحرية.
[[ملف:Beirut close to plane descent.jpg|300px|left|]]
من الصعب فهم علاقة بيروت ب[[دولة]] [[لبنان]] الكبير. الجنرال غورو أعلن في الأول من سبتمبر 1920 تأسيس دولة صغيرة بصفتها مشروعاً لتكبير متصرفية جبل لبنان. ولاية بيروت العثمانية التي كانت المتصرفية الصغيرة التي أسسها القناصل [[أوروبا|الأوروبيون]] في سنة 1864 تقع على حدودها، وجدت نفسها فجأة عاصمة لبلد لم تختر الانتماء إليه. دولة [[لبنان]] الكبير نشأت على أنقاض خرابين: مجاعة كبرى أودت بثلث سكان لبنان، وانهيار المشروع الاستقلالي مع هزيمة المملكة الفيصلية أمام الجيوش الفرنسية على تخوم [[دمشق]]. فجأة تحولت بيروت من عاصمة لولاية [[الدولة العثمانية|عثمانية]] أنشئت في سنة 1888، وضمت ألوية بيروت وعكا وطرابلس الشام واللاذقية ونابلس، والتي كانت مساحتها ثلاثين ألفاً وخمسمئة كيلومتر مربع، إلى عاصمة لبلد صغير [[اسم]]ه لبنان الكبير!
 
هناك التباس تكويني في انتماء هذه المدينة، صارت في [[لبنان]] من دون أن تتلبنن، وبقيت في بلاد الشام من دون أن تكون جزءاً منها. بورجوازيتها وتجارها بزعامة رياض الصلح وقادة الكتلة [[الوطن]]ية السورية صنعوا الصفقة التي حاولت أن تزيل الالتباس من دون أن تزيله بشكل كامل، وتبلورت الصفقة في مقولة الوجه [[العرب]]ي للبنان، التي صارت مخرجاً سمح للبنان وسورية بنيل استقلالهما عن الانتداب [[فرنسا|الفرنسي]]. لكن، وعلى الرغم من القطيعة في أوائل خمسينيات القرن الماضي، فإن بيروت بقيت في البين بين: مدينة تتجاوز آفاقها الثقافية والاقتصادية [[جغرافيا|جغرافيتها]]، فهي نافذة الداخل العربي على البحر، والتي تحوّل ميناؤها بعد سقوط حيفا بيد [[صهيونية|الصهيونيين]] إلى ميناء الداخل العربي كله.
 
175

تعديل